يصف الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي كتبه على أنّها «مرح في الجحيم». انطلاقاً من هذا الوصف، نستطيع فهم وتحليل روايته «تانغو الخراب» (1985) الصادرة أخيراً بالعربية عن «دار التنوير» (ترجمة الحارث النبهان). تتسم الرواية بجو سوداوي موحش، مؤرق وغير مألوف، من دون أن يُغيّب ذلك سحرها الخاص، إضافة إلى المعمار الروائي المتين والواثق؛ فكلما أوهمنا الكاتب أنّه أضاع وجهة الكتابة، نجده يعيدنا إلى الحبكة ويدفعها إلى ذروة هادئة أخرى. لا يبدو الكاتب الحاصل على جائزة «مان بوكر» الدولية 2015 مكترثاً بقارئه، بل على العكس تماماً. إنّه يضعنا أمام نص يشبه المتاهة، يتداخل السرد فيه، بلغة عالية وصور بلاغية محرّضة ومتباينة، ليصنع بصبر وأناة، نصاً ثرياً، مليئاً بالانفعالات الحسيّة والرؤى والتساؤلات العبثية، نصاً شائكاً مخاتلاً، إلّا أنّه، للمفارقة، مؤسسٌ على حكاية بسيطة؛ لمجموعة من الناس الذين يعيشون في قرية نائية ويحاولون الخروج. لكن الكاتب يحول خروجهم ذاك، إلى مختبر قاسٍ يحاكي فيهِ السرديات الكبرى في التاريخ.
نستطيع التكهّن بطبيعة البشر الذين ينشأون في مناطق معزولة ونائية، ونستطيع التكهّن كذلك بسلوكهم الذي يصير نماذج نمطيّة عن اللص والقواد والإنسان الطيب أو المجنون، أو ذلك المشغول بمراقبة جيرانه، عن الذي يعتقد بأنّه يعرف كلّ شيء، والآخر الذي لا يثق بقدرته على تخطي عتبة المنزل. لفهم سلوك الشخوص في الرواية، سنرجع إلى ظروف معيشتهم ونشأتهم في مكان يفكر الجميع في الهروب منه. لكنهم، لقلة حيلتهم كانوا آخر من فكر في الرحيل، ما جعل خروجهم أشبه بالوقوع في فخ الإقامة الطويلة في منطقة لا تصلح للعيش، وبتعبير آخر، إنّ سطوة التفكير بحياة أفضل في مكان آخر كادت تدمرهم.
نص مليء بالانفعالات الحسيّة والرؤى والتساؤلات العبثية

يأخذ سيناريو الخروج شكل خلاص فردي في البداية، عبر اقتسام أموال بشكل سري وغير مشروع بين كلّ من فوتاكي وشميدت، ما يلبث أن ينكشف، ويجتمع سكان القرية في الحانة على نحو مسرحي، بعدما وصلتهم أخبار عن عودة إرمياس وصديقهِ. يرقص الجميع في الحانة رقصة تانغو في انتظار خلاصهم المنشود. كانوا مجموعة من السكارى، أنصاف العراة الماجنين والمجانين الضائعين، المصابين بلوثة عجيبة من اللامبالاة والضعف، ينطوي ضعفهم على شراسة من ذلك النوع الذي ينفجر على الأضعف فالأضعف. لقد بدا مشهد السيدة شميدت وهي ترقص وسط الرجال مشتهاة من الجميع، مشهداً وضاءً، يختزل الخراب وانعدام القانون وضعف الحس الأخلاقي الذي آل إليه حال الجميع. في تلك الأثناء، كانت الطفلة «إيستي» تقتل نفسها، بعدما سرق أخوها مالها بحجة زراعتهِ، ولتنكشف الرواية في تلك اللحظة المتوترة. وتتضح الرؤية الدينية التي بنى عليها كراسناهوركاي نصه الروائي. بعدما امتلأت القرية بالفجور، سيظهر مخلصها، إرمياس، ومنقذ أهلها من جحيمهم العفن إلى دنيا مشرقة.
لقد جاءت لغة إرمياس في خطابه للسكان لغة يسوعية، وقد جعل من وفاة الطفلة البريئة خطيئة جماعية، ستدفعهم إلى فرار جماعي. اندفاع أعمى غير واثق صوب المجهول. لقد اشتغل لاسلو على تحضير قارئه لشخصية إرمياس، بأنّه «سيصل ليهز الأشياء هزاً ويعيدها إلى مسارها من جديد». لكنه في الوقت نفسهِ، لم يفكر في إخفاء حقيقتهِ الفاسدة، حيث سيقع الأهالي ضحية مخلصهم، لا يبخلون بالمال والتسليم لخططه غير المحسوبة، سيمشون وفق مشيئته مثل العميان. لكن قبل أن يتأكدوا من خذلانه إياهم، ستشرق الرواية أيما إشراق، بالكثير من الشكوك حول نبوءات خائبة، إن جاز لنا القول، إذ سيقع يقينهم بهِ موقع اختبار كيدي، وسيعود الجميع للتفكير بخلاص فردي لم يكونوا مدركين أنّه صار وراء ظهورهم، فقد كان شعورهم بحتمية النجاة قوياً إلى درجة أنهم خربوا أثاث منازلهم قبل مغادرتها، ثُمّ سقطوا في كمين محكم، منتظرين المخلص مرة أخرى في مكان خاوٍ، لتمضي ساعات الفجر، في انتظار قدومه من جديد، والشكوك تنمو لديهم. سيوهمنا الكاتب أنّه قد أوصلنا إلى النهاية التي يريد، لكنه لا يتأخر حتى يباغتنا بنهاية أخرى أكثر بلاغة، فالمخلص يعود مرة أخرى كي يكسر شكهم، ويصير الإيمان بهِ نهائياً، في حين أنّهم، كانوا يُشرّدون إلى أقاصٍ مجهولة، حتى بات اجتماعهم محالاً، كأنّما لم يكن يوماً، ولتصير عملية الاحتيال الآن، عملية تامة ومحققة.
أظهر الكاتب نفسه ناطقاً بلسان خراب أبدي، فجعله خراباً مكتوباً بلغة جميلة وغنية، حيث الرعب كامن في كلّ شيء. في الوقت ذاته، مع كل حدث، يشعر القارئ أن هذه هي النهاية، لكن الكاتب يخبرنا، أن لا شيء ينتهي أبداً، ويحكمنا وفق «زمن نهاية العالم». إنّه يقيدنا إلى دوامة من الرغبة الخطيرة للاستمرار ريثما يوصلنا بطريقته الساحرة في السرد إلى قناعة مدمرة، عززها التسلسل المدوّخ لتفاصيل رسمها فنان حذق. لقد رسمنا «خيولاً محكومة بالموت في مسلخ». أدواته؛ الرعب والقنوط، ما يجعل الإنسان، أخيراً، ينقلب على نفسهِ، ويحاول الفرار إلى مصير آخر أفضل حالاً. إنّه في النهاية، ينقل النص السوداوي إلى ضفة مقابلة ومناقضة، ببساطة بالغة، كان يخدعنا طوال الوقت!