جيسون بورن: مطاردات عنيفة وبارانويا متسارعة

  • 0
  • ض
  • ض

يعتبر المخرج البريطاني بول غرينغراس معلّم أفلام الحركة والأكشن في هوليوود اليوم. في الجزء الخامس من السلسلة الشهيرة، يظهر الجاسوس السابق في الاستخبارات الأميركية بعد اختفاء سنوات، يطارده عميل غامض بهدف تصفيته. وللزوم المرحلة، يتعرض للملاحقة أيضاً عبر الفضاء السيبيري، في إحالة إلى سنودن

الدنيا صيف، ونحن بحاجة لأن ننسى مشاكلنا التي لا تنتهي، ونغيّر الأجواء بتسلية خفيفة. فلنذهب إلى السينما. لديك الجزء الخامس من «جيسون بورن»: ساعتان كاملتان من أجمل المطاردات العنيفة عبر لندن وروما وأثينا ولاس فيغاس، مع الجاسوس الأميركي السابق الذي يلعب دوره مات ديمون، أشبه بلعبة فيديو بغرافيكس رائعة.

لا تتعب عقلك بالتفكير في القصة: فلا أنت محتاج لأن تشاهد الأجزاء السابقة لأنها تتكرر هنا، ولا أنت بحاجة لأن تعرف ماذا سيحدث لاحقاً، فنحن ننتهي حيث بدأنا. هي فرصة لتشاهد عن كثب ماذا يفعل الجواسيس الأميركيون حين يخرجون من الخدمة.
لا شك في أن مجموعة أفلام «جيسون بورن» هي أفضل ما أنتجت هوليوود في السنوات الأخيرة من أفلام الآكشن التي يحبها الجمهور، خصوصاً جيل الشباب الذكور تحديداً الذين يتماهون مع شخصية البطل الخارق، «الكوول» ومعبود النساء. هنا مات ديمون (مثّل الشخصية في أربعة أجزاء من الخمسة) يظهر بعد اختفاء سنوات عدة، بعيداً عن أعين الاستخبارات المركزية الأميركية، مشغليه السابقين. يطارده عميل أميركي غامض بهدف تصفيته. على نحو مواز - وللزوم المرحلة - تتم ملاحقته أيضاً عبر الفضاء السيبيري في دراما بارانويا متسارعة.
اللطيف أنّه رغم الحركة الحثيثة، فإن السرد في الجزء الخامس يراوح مكانه.هذا بالطبع يوفر عليك مشقة مشاهدة الأجزاء الأربعة السابقة، لأنّ مخرج الفيلم بول غرينغراس، يستعير بالجملة من الجزءين اللذين سبق أن أخرجهما بنفسه عام ٢٠٠٤ و ٢٠٠٧ (أيضاً مع مات ديمون بطلاً مطلقاً) عن الجاسوس نفسه الذي فقد الذاكرة ويبحث عن نفسه بينما يطارده الجزء الشرير المظلم من المخابرات الأميركية.
يعتبر المخرج البريطاني الآن معلّم أفلام الحركة والأكشن في هوليوود اليوم. أدخل إلى السينما تكتيكات مستحدثة ومميزة في تصوير مشاهد الأكشن باستخدام الكاميرات المحمولة، مستفيداً من خبرته في إخراج أفلام الدراما - وثائقية عن الحركات الثوريّة في إيرلندا الشمالية وجرائم الكراهية في لندن وغزو العراق. خبرته هذه ظهرت في أقوى صورها في الفيلم الجديد، حيث المطاردات تتم وسط الناس (المتظاهرين في أثينا) أو وسط حركة السيارات في قلب لاس فيغاس (لا في شوارع شبه خالية كما في أفلام جيمس بوند مثلاً). الفوضى الناتجة عن السرعة الخارقة، تترتب أمامنا بأناقة عجيبة.


يعادي الفيلم المحافظين
الجدد داخل الاستخبارات، ويدعم تياراً ليبيرالي النزعة

وهو في تلاعبه بالكاميرا يدخلنا معه في قلب الحدث العنيف، حتى لتكاد تظن أنك ستصطدم أنت أيضاً بتلك السيارة. الحركة الكثيرة للكاميرا المحمولة، أغنت أيضاً مناخ البارانويا المتحكم بالقصة. إلى جانب ذلك، يشهد لبول غرينغراس أنه خفف من عدد القتلى الجانبيين في المطاردات عموماً، وأعطى النساء قيمة تتجاوز دور الأكسسوار في القصة إلى دور البوصلة الأخلاقية للعميل - النجم.
جيسون بورن في الفيلم بطل يكاد يكون سلبياً. هو قليلاً ما يتحدث. حتى عندما يتحدث، فالكثير من حواراته هامشية وليست بذات قيمة للتصاعد الدرامي للقصة. في الواقع، هو يعلم أنه يعلم شيئاً ما كان يجب أن يعلمه، وأعداؤه في المخابرات يعلمون ذلك أيضاً، لكنه لا يعلم بالتحديد ما هو هذا الأمر الذي يعلمه ولا حتى كيف علم به من حيث المبدأ، وهو لذلك تائه ونحن نتوه معه. لعل ما يجعل القصة تقترب من الذبول، أنّ بورن الآن يعيش أزمة منتصف عمر مهنيّة، فلا هو مبتدئ في الصنعة ولا هو متقاعد، ولا هو مستخدم ولا هو طليق، ولا هو يتقدم في حياته ولا يستطيع أن يتوقف الآن. الجزء الخامس للأسف لا يدفع القصة بأي اتجاه. على العكس تماماً. بعدما احتجنا إلى أربعة أجزاء كي نلم بخطوط السرد التائهة، ها هو الجزء الخامس يدخلنا - كرمى لعيون سنودن الذي كشف بتسريباته عن حجم الرقابة الهائلة التي تمارسها السلطات الأميركية على المواطنين - في خط سرد مواز عن مطاردة إلكترونية لمن يحاولون حماية أسرار المواطنين من خلال الرقابة عليها، فنضيع تماماً. خلال فترة غيابه الطويلة، لم يفعل بورن الكثير على ما يبدو، فقد وجدناه يمارس الملاكمة الشعبية على الحدود الألبانية - اليونانية لا أكثر، وهو لم يتورط عاطفياً. تحول إلى مجرد مخلوق يعيش من خلال ردود الأفعال اللحظية العبقريّة والإدمان على الأدرينالين. يبدأ الجزء الخامس عندما تحاول زميلة عتيقة لجيسون بورن، متمردة بدورها على المخابرات، الاتصال به في عزلته، لتبلغه بمعلومات حصل عليها هاكرز في إيسلندا تتعلق بتعاملات سابقة للجزء المظلم من الاستخبارات الأميركية مع والده. هكذا يتفقان على اللقاء في قلب مظاهرة شعبية في أثينا. موضوع المظاهرة ليس له علاقة إطلاقاً بالقصة لا تقلقوا بل هو مجرد خلفية للمطاردة المشوقة التي ستجري. هنا تعرف المخابرات الأميركية أخيراً مكان جيسون بورن وترسل من يطارده على الأرض، بينما يتابعه الخبراء المتأنقون في مقر الاستخبارات في لانغلي عبر شاشات لماعة تعطي الإحداثيات لحظة بلحظة. المكلف بمطاردة جيسون شخصية غامضة، على الأغلب أنه قاتل مأجور يعمل لحسابه وتستفيد منه المخابرات كمقاول. يلاحظ هنا دائماً أن السيئ والطيّب كلاهما، وكل ما بينهما من ألوان، ينتمون جميعاً بشكل أو بآخر، للجهاز الاستخباراتي البيروقراطي الضخم ذاته. أنت عندما تتمرد، فأنت ربما مع الجانب الطيّب ضد الأشرار، لكنهم هم يرونك مع الأشرار ضد الطيبيين، مع ذلك فكلنا في النهاية أميركيون يا عزيزي.
على ذكر الأمركة، فإن بعض النقاد اعتبروا الفيلم معادياً للمؤسسة الأميركية، وأنه بمثابة هجوم صريح على أجندتها التي لا تتورع عن القتل المجاني والتجسس لتحقيق غايات غامضة، وأيضاً فشلها الذريع في القبض على عميل وحيد رغم الميزانيات والتجهيزات الهائلة التي تمتلكها. وقد استدلوا على ذلك باستدعاء الخلفية اليسارية للمخرج البريطاني، الذي أنتج أعمالاً في بداية حياته المهنية كانت ذات نفس يساري مناهض للإستبلشمنت البريطانية وللعولمة. الحقيقة أن الفيلم يمكن أن يصنف بأنّه يعادي خط المحافظين الجدد داخل المؤسسة الأميركية الحاكمة، ويدعم تياراً مناهضاً لهم ليبيرالي النزعة أكثر منه ناقداً للمؤسسة برمتها. لعل هذه الأجواء السياسية (القديمة) لم تساعد الجزء الخامس كثيراً، لأننا لم نعد نعيش في زمن جورج دبليو أو تشيني، فالسيد أوباما، وربما قريباً هيلاري، أخذا الإمبراطورية الأميركية كلها في اتجاه جديد، فظهرت المشاكل التي يتعاطاها جيسون بورن معتقة، وخارج سياق الحدث تماماً.
مات ديمون كممثل، كان رائعاً في أداء مشاهد الحركة في الفيلم رغم أعوامه الـ٤٥. عيوب جيسون بورن لا يتحملها ديمون، بل هي القصة ذاتها التي تفتقد إلى الروح. وبالتأكيد، سيعود مات ديمون في جزء سادس (مع المخرج بول غرينغراس حتماً)، فـ «جيسون بورن» ما زال مربحاً بحق من الوجهة التجارية، فالجزء الأول من السلسلة جلب وحده عوائد أكثر من ٢٠٠ مليون دولار مقابل كلفة لم تتجاوز الـ٦٠ مليوناً. لكن على المخرج والممثل أن يعيدا النظر في القصة التي أصبحت مهلهلة، وينقلا جيسون من الهروب الدائم وتجنب الأشرار الغامضين، إلى اتخاذ موقف ما. لا شك في أن عصر كلينتون القادم - أو ترامب بالطبع - سيجلب تغييراً في نوعية الحروب القذرة التي تشنها وكالة الاستخبارات في العالم، مما سيتيح للعملاء الأميركيين خارج الخدمة الاستمرار في عمل ما كانوا يفعلونه وهم في الخدمة. المزيد من القتل.

- «جيسون بورن»: صالات «غراند سينما» (01/209109)ـ «أمبير» (1269) ـ «فوكس» (01/285582)

  • مات ديمون في دور جيسون بورن

    مات ديمون في دور جيسون بورن

0 تعليق

التعليقات