في عشر حلقات، أطولها كان الأخيرة (٦٩ دقيقة، شاهدها في عرضها الأول حوالى ٨ ملايين مشاهد)، قدّم ديفيد بينيوف ودانيال وايز لصالح «HBO» موسماً سادساً من المسلسل الأميركي «لعبة العروش - Game of Thrones»، والذي نجح على نحو أسطوري في جذب ملايين المشاهدين عبر العالم، وأثار نقاشات لا تنتهي سواء في المقاهي وأماكن العمل، أو على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.تناولت هذه النقاشات أحياناً تقنيات العمل الدرامي ذاتها - من ممثلين إلى المؤثرات البصرية والصوتية إلى الأزياء ومواقع التصوير. لكن معظم النقاشات كانت غالباً ما تنتهي، وقد امتدت عميقاً لتبحث في الرسائل والمعاني السياسية والفلسفية التي تحملها الأحداث الدرامية، وهذا لعله كان سر شعبيته الواسعة.
فالمسلسل المبني حول السلسلة الروائية «أغنية من ثلج ونار»، لجورج آر آر مارتن، يروي صراع السلطة والنفوذ بين سبع سلالات حاكمة، تتوزع على قارتين خياليتين: شرقية وغربية، في أجواء مقتبسة من مرحلة حرب «الوردتين»، بين عائلتي لانكستر ويورك، في صراعهما على الحكم في إنكلترا القديمة.
يتفق نقّاد الثقافة التلفزيونية الشعبية على أن «لعبة العروش» ليس مجرد عمل روائي ضخم تحوّل إلى مسلسل ناجح، بل هو مشروع فلسفي – سياسي - فكري متكامل الأركان - شديد التأثير - يبرّر ربما أو هو نتاجٌ - إذا شئت - لصعود الإمبراطورية المعولمة، ومعمار ممنهج يمنحها الشرعية، بل وحتى الاستدعاء.
فالرواية، وإن كان مناخ أحداثها في عصورٍ أشبه بالعصور الوسطى في أوروبا، فإن «ثيمات» القصّة تطرح قضايا سياسية شديدة المعاصرة بشأن شكل وشرعية الحكم، الهيمنة والإمبراطورية، العدالة والدين، الحرب والموت، الجندرية والتحديات البيئية الشاملة التي قد تعصف بالكوكب برمته.
ما هو البديل الذي يقدّمه مارتن؟ يقول لنا إن الكيانات السياسية التافهة، والقائمة على طموحات سلالات أو أفراد «ميكافيللين» حد البشاعة، مهما كان مصدر شرعيتها، يجب أن تُخلي مكانها لمشروع أكبر، معولم، قادر على استيعاب تنوّع المجموعات العرقية، والسياسية المختلفة في نطاق عقد اجتماعي جديد.
هل «لعبة العروش» دعوة لإمبراطورية؟ أم قراءة للإمبراطورية القائمة فعلاً. هذا قرار يترك للمشاهد لكنّه لن يخرج دائماً عن أحد الحالين.
بدا المسلسل في موسمه السادس هذا، وكأنه استعاد روح المبادرة في الإبهار، وفي الحراك المشوّق للشخصيات بكثافة شديدة، على نحوٍ أعادنا لأجواء الانفعال العاصف التي عشناها في المواسم الثلاثة الأولى، ثم ما لبثنا وخسرناها في الموسمين الرابع والخامس. وهو أيضاً بدأ يطرح ملامح تغييرات جزئية - لكن جذرية - في النظام البطريركي لمنظومة الحكم، والذي بدأ يتداعى لمصلحة صعود قيادات جديدة، من نوع مختلف: نساء، وأفراد كانوا منبوذين (على نسقٍ يذكّرنا ربما بهيلاري كلينتون، وباراك أوباما على مستوى ما)، مما يشير إلى أن المسلسل بدأ يحضّر جمهوره لأجواء نهاية اللعبة - التي تأكّد الآن أنها ستكون موزعة على موسمين آخرين.
أن نبدأ في التحضّر للنهاية، فذلك لا شك أنه أمر جيّد لمصلحة السرد - الذي كان بحاجة إلى إعادة توجيه بعد أن قضت معظم الشخصيات، وقتها، لموسمين كاملين وكأنّها تشتري الوقت، في أحداث كان يمكن استيعابها في حلقات قليلة. أما توزيع النهاية على موسمين فهو مقامرة يتولّاها «دي أند دي»، إذ يفتحان المجال للعودة من جديد إلى التطويل، وتقطيع الوقت قبل الوصول إلى الحسم المنتظر.
حرفية فريق العمل وخبرته في إنتاج اللحظات العبقرية وشديدة الكثافة، وصلت إلى مستويات لا تُدانى في هذا الموسم: يكفيك فقط أن تشهد مقطع البداية في الحلقة الأخيرة من الموسم لتقول قد عشت. هنا تتقاطع ضربات البيانو الثقيلة (الموسيقى لرامين جوادي) مع مشهد أبطال العمل، وهم يتحضرون للحظة ستأتي تالياً، يواجهون فيها شبه موت محتّم، في لوحة لا تقل تألقاً في كل تفاصيلها عن رائعة أنجلو «العشاء الأخير».
لكن سخرية القدر عندي أن هذه اللحظات المعجزة هي من تكشف نواحي الاهتزاز في سردية العمل، على نحو يجعل من «لعبة العروش» - وإن كان الأكثر شعبية والأعلى عوائد في التاريخ المعروف منذ اختراع الصورة التلفزيونية - غير مؤهّل في المجموع الكلّي للوصول إلى قائمة أعمال الدراما التلفزيونية المقدسة مقارنة مثلاً بـ«بريكنغ باد» أو «ناركوز» مثلاً.
«نحدّق بالنجوم ذاتها، ونرى أشياء مختلفة» - جون سنو

فبين كل لحظة عظيمة وأخرى في «لعبة العروش» هناك ما يشبه طبقاً بارداً من عشاء الأمس، ربما عليك أن تزدرده، قبل أن يأتوك باللحظة العظيمة التالية. قارن ذلك مثلاً عندما تكون في وسط «ناركوز»: هناك لا أحد منا يقدر أن يوقف اندفاعة السرد، وكمال معمار الحدث بين اللحظات العبقرية، ما يجعل من المستحيل عليك النأي بعينك جانباً ولو للحظة لقراءة الرسائل النصية على هاتفك المحمول. في «لعبة العروش» مسار الشخصيتين الأهم سيرسي لانستر وجون سنو يشبه سرد حياة وولتر وايت في «بريكنغ باد» أو بابلو أسكوبار في «ناركوز» من حيث نشوء الشخصية، ونموها الدرامي المتراكم الذي يأخذك إلى غاية التصاعد قبل النهاية، وإغلاق الدائرة. لكن كثرة الشخصيات المتوازية في «لعبة العروش»، والتي غالبها مجموعة متسكعين في ظل السرد، أو مجرد كومبارس لإكمال اللون حول الشخصيات الأهم، لم تخدم في النهاية تكامل التدفق الدرامي العام للعمل. لقد كسب «لعبة العروش» الشهرة والمال وأبهر العالم، لكنه على صعيد الدراما المحضة قد خسر نفسه!
من الجدير بالذكر أن الموسم السادس كان أول موسم ينفصل فيه المسلسل عن العمل الروائي المُلهم للعمل من حيث التوقيت (إذ توافق القائمون على التسويق للمسلسل، بتأخير صدور المجلد السادس من الرواية لما بعد عرض الموسم)، وأيضاً من حيث تطور الأحداث (إذ يعتقد على نطاق واسع الآن بأن السرد قد يأخذ مسارات تتباعد حول نقطة النهاية)، وهذا ما قد يفسر اندفاع «دي أند دي» لتقديم وجبة ثقيلة من الأحداث، فجاء متخماً - أكثر بكثير من أي من المواسم السابقة - باللحظات السعيدة التي ترضي المشاهد: قيامة جون سنو، نجاة هاوند، عودة بنجين إلى الحياة - على نحو ما، عودة المشاعر بين جون وسانسا، الكشف عن شخصية والد جون المجهول - حتى الموسم الخامس، الموت التراجيدي الشافي للغليل للشخصيات الشريرة والدر ورامزي، مقابل الموت الحزين لهودور (الذي أضيف من خلاله عنصر السفر عبر الزمن لخلطة المسلسل العجيبة)... وغير ذلك من الأحداث المركزية التي جعلت الموسم كله مجزياً للمشاهدين - ولمنتجي العمل على حد سواء.
امتُدح أداء الممثلين عموماً في هذا الموسم، لكن أداء لينا هايدي في دور سيرسي، الذي استمر متألقاً عبر المواسم، ازداد لمعاناً في الموسم السادس ليجلسها على عرش الأداء دون منازع، وإن كان ذلك لا ينقص أبداً من تألق كل نجوم العمل تقريباً. قد يقول البعض إن الشخصية خدمتها بالطبع، لكن الممثلة الرائعة أيضاً خدمت الشخصية، وأغنتها و لوّنتها.
إذن موسم ثري من «لعبة العروش» يستحق الساعات العشر التي قضيناها في متابعته، ولا شك أننا سنعود للمزيد في الموسمين القادمين، لكنني شخصياً ما زلت أفضّل «بريكنغ باد» و«ناركوز»، وكثيرون ربما كانوا يشاركونني هذا الرأي.