في معرض L'Echappée Belle (لعبة كلامية تعني السفر الجميل كما النجاة) الذي اختتم قبل أيام، مثّل جان جينيه (1910 ــــ 1986) محلّ تكريم في «متحف حضارات أوروبا ودول البحر المتوسط» (MUCEM) في مناسبة الذكرى الثلاثين على رحيله. كيف يمكن تنظيم معرض عن حياة كاتب، وبالأخص الكاتب الأكثر تمرّداً في عصره إلا عبر التواصل والتبادلات المتعدّدة الإختصاصات مثلما اقترح منسّقا المعرض ألبير ديشي وإيمانويل لامبير. شاعر ملعون، هو الناجي الوحيد من عصور الشعراء الملعونين، متمرّد على هامش المنظومة الإجتماعيّة-المجتمعيّة، من دون أب ولا أم، ومن دون وطن سوى اللغة... هذا هو جان جينيه الذي جعل من نفسه صوت المحرومين والمهجرين، والمقتلعين من جذورهم في القرن العشرين، كـ «حركة الفهود السود» والفلسطينيّين. «شاعر المكان الآخر»، والجاني واللصّ الذي لا يُروّض، أنقذته الكتابة من السجن المؤبّد، فباتت ارتباطه الوحيد. هو الرجل «الذي يسير» كـ «العابر بنعال من ريح» كما جاء في وصف الشاعر الفرنسي رامبو.
في هذا المعرض، يدعونا المنسقان إلى السفر في الأدب عبر مقتطف من «يوميّات اللص» جاء فيه: «عندما كنت عاملاً في المزرعة، عندما كنت جنديّاً، عندما كنت في المخزن مع الأولاد المتروكين، وعلى الرغم من صداقة معلِّميَّ وأحياناً عاطفتهم، كنت وحيداً، حقّاً».
لم يستقرّ جان جينيه أبداً في المجتمع، هو المدمن الوحدة، والوفيّ أبداً لطفولته المتروكة. لدى خروجه من السجن على اثر نجاته من حكم المؤبّد بفضل العريضة التي رفعها كلّ من الكاتب والمخرج السينمائي جان كوكتو، والكاتب والفيلسوف جان بول سارتر، فَقَد جينيه نقاط توازنه. ضاع. لم يعرف كيف يتعاطى مع ثقل الشهرة والمجد الذي أعطي له، هو الذي لطالما بنى كيانه على رفض النظام، وحدّد «الإنحراف» تصرّفاته. وكان للنحّات السويسري ألبرتو جياكوميتي أن يعلّم جينيه كيف يروّض الواقع، ويعطي الشاعر علامات جديدة لمواصلة رحلته في العالم، مدفوعاً برغبة مستمرة في التحرّك والإستقرار في اللا-مكان.
ولهذا، فإن تمثال جياكوميتي «الرجل الذي يمشي» (التحفة الأغلى في العالم، إذ تُقدّر بنحو خمسين ألف يورو) هو الذي يتصدّر وسط المعرض. يمثّل التمثال علامة الإهتداء للزائر والنقطة الصفر للمسارات الثلاثة التي سلكها جينيه، عبر ثلاثة أعمال مُدرَجة في الجغرافيا: «يوميات اللص»، «الستائر»، و«الأسير العاشق»، ومعها اسبانيا السنوات الأولى، والجزائر المسرح، والشرق الأوسط الإلتزام السياسي بالقضية الفلسطينية، هو الذي عاش فترة طويلة مع المقاتلين الفلسطينيين في الأردن وبيروت.
منحوتة «الرجل الذي يمشي»، هي شعار المعرض، وضعت لتعكس شخص جينيه في رمزيّة للرجل الذي يمشي على نحو مستمر. يقول ألبير ديشي لـ «الأخبار»: «جينيه هو الرجل الذي يريد دوماً الرحيل. هذا هاجسه منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره، يجذبه الجنوب عبر إسبانيا، المغرب، الجزائر، فلسطين والشرق الأوسط».
كان للناحت السويسري ألبرتو جياكوميتي أن يعلّمه كيف يروّض الواقع

لماذا إيلاء الأهمية لتمثال «الرجل الذي يمشي»؟ يجيب ديشي: ««لأنّه يمكننا أن نرى في هذه الفكرة انعكاساً لحالة الإنسان، الرجل الذي يمشي في المدن الكبرى، التمثال الذي يصوّر رجلاً هزيلاً يذكر بالفقر، منحوتة لزمن ما بعد الحرب، لرجل كأنه يخرج من تحت الأنقاض ومن عوالم الموتى؛ هذا التمثال هو النظرية التي يمكننا أن نعكس من خلالها ما نريد».
عبر هذه الرحلة الأدبية والفنية في المتحف- المرفأ المستريح على الماء، على حدود أوروبا وعلى بوابة المتوسّط، نجد أنفسنا في قلب المفارقة التي اختبرها جينيه في حدّها الفاصل ما بين العدوان ونقيضه، اللص في أوروبا من جهة وأمير المهمشين في غيتوات السود في الولايات المتحدة من جهة أخرى، وفي المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن.
يوضح لنا ألبير ديشي: «في السجن، هناك المحكومون الذين أدينوا لارتكابهم الجرائم والسرقات، وهناك السجناء السياسيون. جينيه لا يرى فرقاً بين هاتين الفئتين، فمطالبته هي في الوقت نفسه سياسية واجتماعية. عندما كان مسجوناً خلال الحرب، صُدم عندما رأى المقاومين يحرّرون السجناء السياسيين فقط من دون الإفراج عن الآخرين: الجناة». بالنسبة إلى جينيه، القضية هي نفسها. لذا خصّص عمله للمنحرفين والسارقين والمجرمين، مدافعاً عن المحرومين الذين يقفون على هامش الشرعيّة. ستجذبه فئة أخرى من الضحايا كـ «حركة الفهود السود»، والفلسطينيين، أمثاله، ممن يعكّرون صفو العالم لإثبات وجودهم، ولأنهم، كما هو جينيه يتبعون وسائل «غير شرعية» وغير معترف بها قانوناً ويتجاوزون الحدود. هذا ما يثير اهتمامه «لأن السياسة والانحراف يتقاطعان. إنها نقطة خطيرة ومعقّدة» وفق ما يقول ديشي.
إلى يمين التمثال، نرى صورة لتظاهرة احتجاجية أمام مسرح الـ «أوديون» بعد عرض مسرحية «الستائر». تجعلنا هذه الصورة على بينة من الوعي السياسي الذي تحلى به جينيه في مسألة حرب الجزائر، والتناقض مع الشارع الغضبان الذي رأى في مسرح جينيه تمجيداً للمقاومة.
في الجهة المقابلة للتمثال وبورتريه لجينيه من تنفيذ صديقه جياكوميتي، وبورتريه آخر أنجزه إرنست بينيون إرنست، هناك صالة عرض مخصّصة للفترة الأخيرة من حياة جينيه التي دامت خمسة عشر عاماً، ورافق خلالها «الفهود السود» الأميركيين وبوجه خاص الفلسطينيين، حيث استوحى منهم مادته الشعرية في آخر عمل له « الأسير العاشق». هنا، يلقي جينيه الضوء على مجزرة صبرا وشاتيلا، وهو أول شاهد غربيّ شهد عليها برفقة صديقته ليلى شهيد.
عرض على ثلاث شاشات «تريبتيك» فيلم وثائقي يستعرض في جهة من الصالة صوراً من المجزرة، وشهادة إحدى قريبات ليلى شهيد، وخطاباً لجينيه يقرأ فيه نصّاً لأنجيلا ديفيس، وريبورتاجاً لأنجيلا ديفيس تحكي فيه عن جينيه الرجل الأبيض الوحيد، الذي سُمح له بدخول الغيتو الأسود. وفي جهة أخرى، ريبورتاج عن المخيمات الفلسطينية من تنفيذ المصور برونو باربيه خلال السبعينيات، يعلّق عليه جينيه لمجلّة Zoom.
يمثّل جينيه حالة فريدة في نوعها في التاريخ الاجتماعي- الأدبي. هو الهامشي الذي عبر الحدود، ونجح بعبورها لكونه هامشياً فقط، ممهّداً للالتقاء مع الجهة المقابلة. يقول ديشي: «ما يثير الإهتمام هو عدد المثقفين العرب الذين كتبوا عن جينيه. وهذا يعني أن جينيه لقي مستمعين له، نشأ التبادل فاللقاء، وهذا أمر مميز حقاً».