(إلى داريو، البديع، ذي الرهافة والرنين)
لا يتألق الممثل إلا بلباسه مع منير أبو دبس (1932 ـــ 2016). ضاج تلاميذه من شغله على الإنارة النصفية لوجوههم. نصف وجه في العتمة. نصف وجه في النور. لا لأنه يستطيع العمل على نصف، من دون القدرة على نصف الوجه الآخر، بل لأنّ مؤسس تجربة المسرح الحديث في لبنان، استعار أساليب لياقته الإبداعية في المسرح، من الفن التشكيلي. دارس الفن التشكيلي في باريس، لم يبدُ خائفاً من أن لا يعرف، وهو يُعرِّف الناس، من جديد، على فن المسرح. أحبّ الرفاق المسرح بقوة. أجلوا احتقارهم لعمليات الإعدام بحقهم على المنصة الجديدة، حتى ينتهي الشوط الأول. شوط قيام المسرح على المسرح. بعد ذلك، لم يعرفوا الخوف، حين وصفوه بالشارلتان. أحدهم قال إنّه يقرأ في كتاب غير معروف. عُرف الكتاب إثر ذلك: فن الممثل لستانسلافسكي.
حسب رواية منير أبو دبس، لا خلاف منهجياً مع من تَرَكُوا «فرقة المسرح الحديث» التي أسّسها في بداية الستينيات. روى أن الخلاف دار حول رغبته في تجريدهم من لعب الدور الأول في مسرحية جديدة. نظر إليهم بشفقة باردة، إذ أعلن أمامهم أن البطل الجديد في التجربة الجديدة، هو أنطوان كرباج. لم يتميز أبو دبس بموهبة معاشرة الناس. إرادته الصلبة، المتماسكة، أخرجت الآخرين من صفوف منظمته، من صفوف الأخوية الأولى في تجربة المسرح الجديد. برواية الآخرين، هم لم يتعبوا من الحياة والنضال في مدرسة المسرح الحديث، بل تعبوا ممن أراد تجريدهم من أرواحهم. الآخرون، ريمون جبارة وأنطوان ولطيفة ملتقى... استمروا في اللعب بدون توقف. تحلقهم في راشانا عند آل بصبوص، حرك قرارهم بعنونة تجربتهم، في حلقة المسرح اللبناني. زال التعب العكر هناك. قامت مشيئتهم على فضح الأساليب المعوجة لمنير أبو دبس. هكذا أضاؤوا الأفق بالانبثاق الجديد، حين وجدت التجربة وسعها بالتنافس على ريادة المسرح في لبنان. ازداد المسرح حضوراً، بحضور تجربتين بدل التجربة الواحدة. أسس منير أبو دبس التجربة الأولى وأسهم في تأسيس الثانية. لن تثار أعصاب الآخرين من ذلك، لأنهم حققوا تجربتهم. لم يفوّتوها. لم يرسموا صورة تقريبية لها، وهي تخط فرحها الغامض، على بلاط كل ما هو غير متوقع.
أحدهم قال إنّه يقرأ في كتاب غير معروف. عُرف الكتاب إثر ذلك: فن الممثل لستانسلافسكي

بعينين مغمضتين، كتب منير أبو دبس، بداية التجربة، بصباها الرائع، بعدما لهت طويلاً أمام الموت، إثر تدفق تجربة مارون النقاش وارتدادها عن التدفق. أضحى ذهب النقاش الافرنجي، بلا أفق، في بلاد سقط عليها المسرح كأفعى ميتة. المؤسس المعلم بضربة واحدة. لن يهز هذا الفضاء فضاء آخر، إلا فضاء الموت. مات منير أبو دبس أمس. ألهم كثيرين دقائقهم النادرة في المسرح، بعدما رسم رقعة المسرح على طول البلاد وعرضها. رسمٌ بغاية الدقة. لم يعد المسرح عالماً افتراضياً، منذ أن ألقى الرجل نظراته المتفحصة على هذا الفن، القوي، الحزين، المزعج، غير المتوقع. كل مسرحية عند المسرحي، ملكة على شطرنج الرجل ذي الهيئة العسيرة. وجه مغلق على حضور حر متسلط، ومتكبر. رجل واحد في مدينة مهجورة، لم تلبث أن احتشدت بالناس ذوي النظرات الصافية، البديعة، اللطيفة. كل صغير أحسن المشي في المدينة، أضحى كبيراً. فتوة يزأرون في غابات المسرح. عام ١٩٦٧، زأر آخر الرفاق في وجه المعلم المؤسس. انتظروا دموعه. باغتهم، لا بتأخرها. باغتهم برفض ذرفها، حين نشج كل العرب بأصوات عالية. لا القضاة ولا الرفاق، ولا هو نفسه، قاد التجربة إلى ضفتها الأخرى، مع الحدث الاستثنائي، في العالم المفكك على الهزيمة العربية المدوية. إذ لم يعر رغبة ميشال نبعة وأنطوان كرباج، بترك اللغة الفصحى، لمصلحة العامية اللبنانية، كرد من ردود على سؤال الهوية واستلحاقها أمام الهيجان الصهيوني. لم يشعر بالضيق ولا بالانزعاج، وهو يردد أمام آخر فرسان الطاولة المستديرة، في صحن داره، أن العربية الفصحى تُغرِّب. لم يبدُ متسلطاً، كما ظهر في تلك الظهيرة، بنت الكلب. ما عاد قبح التجربة، جمالاً، منذ ذلك اليوم.
أراد منير أبو دبس باستمرار أن يعبر بالكلام عما رَآه. لم ينظر الآخرون بعد من سجنه. حلق أنطوان كرباج وميشال نبعة بتجربة جديدة. لم تشعّ من الأخيرة شرارات العبقرية في «الديكتاتور». بارتطامهم القاسي بنظرات الرجل المتكبرة وروحه غير الشحيحة، سلكوا طرقات تأليف الحيّز الثالث، في تجربة المسرح اللبناني. عطفُ منير أبو دبس على المسرح، أخذ رفاقه الغالين، إلى تجربتين، أكملتا جسر مسرحه الأول على الجمهور المسرحي العريض وعلى كسر غرابة المسرح عند هذا الجمهور. مسرحياته شديدة البروز من «ماكبث» (1962) و«الملك يموت» (1965) إلى «الطوفان» (1971) وغيرها. كل مسرحيات عربة خَيل، لم تلتفت خيولها وهي تسوق العربة من الأراضي المهجورة إلى الأراضي الناطقة بالحضور الكثيف للمسرحيين والبشر. ارتدى أبو دبس نظارتين إغريقيتين، وهو يكوّر عينيه، خلف جمل جاءت من خلف ظهره. بعد ذلك، جرى كل شيء من تلقاء ذاته. بجدية كاملة، أهدر الرجل لهبه الأصفر، بتقديم لزوم ما لا يلزم، ظلال مسرحه القديم على الأوقات الجديدة. ذلك أنه ما عاد يمتلك قوة ولا عزيمة حالاته السابقة، بتغير ساحات الظلمات الرطبة الخاصة بتجربة المعلم المؤسس دائماً. لم تعد الحياة حياة بغياب قوات القطر الكبيرة، من فوضى العجالة إلى الرقابة. خيولٌ تدق الأرض بالترجمة والاقتباس والتأليف. بدا منير أبو دبس في السنوات الأخيرة كتنهيدة عريضة على السنوات الماضية. بقي في قريته الفريكة، في محترفه، مع أزواج من الممثلين العاديين. أكلت رائحة الثلج رائحته. أكلت الاضواء الجديدة نوره. هناك انطلقت العربة. هناك، ضربها السر العظيم المجهول. هناك ماتت، بعدما ماتت البلاد كيد ذابلة على يد ذباح مضحك.

مقتطفات من فيلم وثائقي عن منير أبو دبس بعنوان «كاهن الغرابة» انتجه مسرح «دوار الشمس» في بيروت، ضمن احتفاليّة «اليوبيل الذهبي» للمسرح اللبناني (آذار/ مارس 2011)