يقرأ المرء اسم شخصية موسيقية، فاعلة في مجالها، عشرات المرّات على أغلفة الأسطوانات أو في مقالات صحافية، فيربطها حكماً بأسماء أخرى عملت معها هذه الشخصية مرة أو مرات عدة. لاحقاً، عندما يطالعه الاسم ذاته في مكان وإطار غير متوقَّعين إلاّ قليلاً، يصاب بصدمة غريبة، لا هي إيجابية ولا هي سلبية. الاسم الذي نتكّلم عنه هو الباريتون - باص البلجيكي العتيق جوزيه فان دام والأسماء التي يربطها المرء به لاشعورياً هي هيربرت فون كارايان أولاً، ثم جورج شولتي وكلاوديو آبادو وكولن دايفس ونيفيل مارينر وغيرهم... كي لا نعدّد سوى قادة الأوركسترا العظام الذين صدح تحت قيادتهم هذا المغنّي القدير. هكذا، عندما يرِد اسمه في برنامج «مهرجانات بعلبك الدولية»، لا بد من أن يشكل ذلك شعوراً لا يمكن وصفه أو تفسيره بدقة. ربما هو شعورٌ بأن رجلاً عظيماً في جعبته تاريخ فنّي قوامه نصف قرن من الزمن وقيمته الجمالية غير محدودة، يحلّ بيننا حاملاً في ملامحه آثار نقاش حول «القداس الجنائزي» أو «زواج فيغارو» لموزار مع كارايان الذي كان يوماً هنا، في القلعة الرومانية.
بين أعمدة هذه القلعة، سيقف رفيقه فان دام في 28 آب (أغسطس) المقبل، لا ليغنّي موزار أو فاغنر أو شتراوس أو دوبوسي أو فيردي، فهؤلاء كلهم أداهم منذ عشرات السنين وعشرات المرّات ومع عمالقة تقاعدوا أو رحلوا وتركوه. هو هنا لينشد التانغو الأرجنتيني وتحديداً رمزه الأكبر وسفيره الأول، العملاق كارلوس غارديل (1890 - 1935). وهنا نلفت انتباهكم إلى أن لهذا السبب تحديداً نتناول زيارة فان دام إلى لبنان ضمن صفحات الملف المخصصة للأمسيات الأوبرالية النَفَس، كما نستخدمه جسر عبورٍ إلى المقالة التي نخصّصها للحفلات المندرجة تحت خانة موسيقى الشعوب، باعتبار أنّه في غنائه التانغو يجمع بشخصيته هذين العالمين الفنيّين.
المغني البلجيكي ذو الصوت الجَهور بدأ مسيرته مطلع الستينيات

معروفٌ عن كبار مغنّي الأوبرا أنهم يولون اهتماماً بالأغاني الشعبية والتراثية لبلادهم، خاصةً إن كانوا من ثقافات ذات إرث غنائي كبير ومنتشر عالمياً، مثل أميركا اللاتينية (بالأخص المكسيك والأرجنتين والبرازيل) أو إسبانيا أو غيرها. لكن، فعلاً تبدو التفاتة جوزيه فان دام إلى التانغو غير متوقعة لكنها جميلة طبعاً. المغني البلجيكي ذو الصوت الجَهور مولود عام 1940. بدأ مسيرته مطلع الستينيات، أي في الفترة التي كانت فيها دور الأوبرا واستوديوهات التسجيل تحتضن أكبر أسماء صناعة الأوبرا (من مغنين وقادة أوركسترا ومنتجين ومهندسي صوت) في التاريخ. إنه العصر الماسي بدون شك، وفيه انخرط فان دام بقوة متنقّلاً من مسرح إلى آخر، مؤدياً أدواراً كتبت لصوته من كبار المؤلفين. عمل تحت قيادة كارايان (خلال الحقبة التي قدّم فيها القائد النسماوي أهم تسجيلاته) في العديد من الأعمال الغنائية، من الأوبرالية لموزار وفاغنر وفيردي وبيزيه، والدينية لموزار أيضاً وبرامز، كما الكورالية لبيتهوفن (السمفونية التاسعة). ومع القادة المذوكرين أعلاه، أدى فان دام العديد من الأدوار الكبيرة في مجال الأوبرا، وقد استعان فيه المخرج الأميركي جوزيف لوزاي في رائعته المطلقة «دون جيوني»، الفيلم المبني على أوبرا موزار الشهيرة، ليؤدي دور ليبوريلّو (خادم دون جيوفاني المطيع) في النسخة التي ترافق الفيلم وقادها آنذاك (1979) الراحل لورين مازِل. بالإضافة إلى ضيفنا، شاركت في النسخة شلّة من كبار مغنّي الأوبرا. ليبوريلّو هي الشخصية التي اشتهر بها الـ «دون» جوزيه، وأداها كثيراً حتى باتت تسكنه وبات مرجعاً لها في الديسكوغرافيا الكلاسيكية. إلى جانب الأوبرا، سجّل فان دام معظم الأغنيات الكلاسيكية للمؤلفين الفرنسيين وللنمساوي شوبرت، صاحب أجمل نتاج في هذا المجال.
في حفلته في معبد باخوس ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية»، يرافق جوزيه فان دام الثنائي البلجيكي أيضاً، عازف الكونترباص المخضرم Jean-Louis Rassinfosse وعازف البيانو والمؤلف الموسيقي Jean-Philippe Collard-Neven. الأول يعدّ من أهم الموسيقيين في بلده، ومسيرته حافلة بالتسجيلات إلى جانب عازف الترومبون سلايد هامبتون، وعازف الساكس كليفورد جوردن، وعازف الترومبت تْشات بايكر. أما الثاني فهو متعدد المواهب والاهتمامات، من التأليف إلى العزف في مجال الجاز والموسيقى الكلاسيكية.
برنامج جوزيه فان دام ومواطنَيه لأمسيته في «بعلبك» مكرّس حصراً لكارلوس غارديل، ملك التانغو تأليفاً وغناءً. وقد ذكر الإعلان عن الحفلة على موقع المهرجان عناوين لكلاسيكيات غارديل سيؤديها فان دام، لكنه يورد أخرى غنّاها غارديل لكنّها ليست من تأليفه ما يعني أنها تحية إلى غارديل عبر الأعمال التي تركها أو تلك التي أحبها واشتهر بأدائه لها.
في الختام، نذكر ببضعة أسطر الرجل الذي تتمحور حوله هذه الأمسية، أي كارلوس غارديل. إنه رمز التانغو الأرجنتيني الأول. ولد في فرنسا عام 1890 من علاقة خارج إطار الزواج، فاضطرت والدته لمغادرة البلاد كي لا تتعرض للمضايقة. هاجرت إلى الأرجنتين حيث نشأ ابنها الوحيد الذي أصبح لاحقاً المغنّي الأول هناك. مات غارديل في عمر مبكر في حادث تحطم طائرته فوق الأراضي الكولومبية. لغارديل مسيرة مهنية في مجال السينما ببداياتها الأميركية، حيث لعب أدواراً في أفلام عدة، بعضها صامت. تسجيلاته الصوتية قليلة نسبياً وهي تعود إلى فترة لم تكن قد تطوّرت فيها تقنيات التسجيل. لكنها رغم ذلك تنضح بروح التانغو التي لم تعرف مرآةً لها أنقى من صوت غارديل لغاية اليوم.