إنها حوارات مستأنفة من مدة طويلة منذ 1948 وما قبلها حتى اليوم، بل منذ ضياع الأندلس إلى الخوف من ضياع فلسطين. حسناً. ينسى في هذه الحوارات التي انخرط فيها مفكرون وسياسيون وشعراء وروائيون ثلاث مسائل: الأولى: أن الصوت الابداعي في الشعر والرواية خاصة، وهو أعمق وأصدق من السياسي، كان على العموم صوت اليأس. أنظر إلى الشعر العربي الحديث بكامله. إنه شعر مراث لا تنقطع أو شعر غضب ورفض. والشعر التأملي قليل. اليأس الثقافي على حق لأن التاريخ العربي الحديث والمعاصر يؤرخ له بالهزائم. إن مواقفنا جميعاً على تناقضاتنا يشوبها شيء من اليأس. وحين أقول: «أخاف أن يكون قاتلي بداخلي» (النازلون على الريح)، أشير إلى الفعالية الذاتية في تمزيق الذات (سوريا في سوريا، العراق في العراق، فلسطين في فلسطين إلخ) وهي مسألة لا تجعلنا ننسى مفارقات دولية محيرة: بوتين في نتنياهو، أميركا في إيران.
بقي تحرير الجنوب مسكوتاً عنه عند رموز معتبرة مثل إدوارد سعيد، ومحمود درويش والياس خوري

المسألة الثانية: ثمة مشاريع للخلاص، منها ما يجري النقاش حوله الآن (ولو بحدة أحياناً) تقدم في بعضها «الذريعة الانسانية» (التي تحاور القاتل الوالغ في دم الضحية كشريك) أو الذريعة البراغماتية (واقع وجود هويتين فلسطينية وإسرائيلية معاً على أرض واحدة)... حتى ليخيل إليك أحياناً أنّ في قصائد الحصار لمحمود درويش قبولاً للضحية الفلسطيني مع الجلاد اليهودي الاسرائيلي. يقول ما مؤداه: هل إذا ضمنا خندق واحد مثلاً وجاءنا الموت معاً تقتلني أم أقتلك؟ بالطبع هذا الافتراض الانساني لا يتحمله الدم الفلسطيني المراق في كل لحظة، وبالطبع أيضاً أوسلو كانت نتيجة يأس وكل الثقافة المطبوعة بالقبول بالآخر والاندماج مع العدو (ومن ذلك التطبيع والحوار والجلوس معاً والتراسل إلخ) هي ثقافة إذا أحسنا الظن بها لاستعادة الانفاس، وإذا أسأنا الظن لتعميق اليأس، وإذا آمنّا بالثقافات الضدية المتعايشة هي طوباوية وبالثقافات المتقاتلة لتبرير الضعف. ألا ترى أن تركيز مقالة الياس خوري في «القدس العربي» (14 حزيران/ يونيو 2016) «إدوارد سعيد: المثقف اليهودي الأخير»، للإشارة إلى الجملة التي قالها إدوارد سعيد لمحاوره في «هآرتس» «أنا اليهودي الأخير» هو ليس لجلب الانتباه إلى تبرير اللقاء بإسرائيلي، بل إلى النظر للهوية الفلسطينية على أنها أيضاً هوية يهودية (نصف بنصف) بغض النظر عن قابيل وهابيل؟ وأن الموقف الفكري لشيخ الاستشراق الجليل قاده إلى افتراضات شبيهة بافتراضات محمود درويش في شعره، والياس خوري في مواقفه وحواراته، ولست أدري إذا كانت لأمين معلوف أفكار مشابهة، ولكنه مفتون بالهويات المركبة والهويات الصافية القاتلة، ولا أعرف له موقفاً أخلاقياً أو ثقافياً مسطراً في الصراع في فلسطين سوى إشارة ظهوره في إطار شاشة إسرائيلية وتلك إشارة لا تحمل أكثر مما تحتمل.
المسألة الثالثة هي أنّه حصل على امتداد الصراع الطويل أن تم تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي في أيار (مايو) عام 2000. وقد لاحظت أنه إبداعياً (أي في الشعر والرواية على الأقل) بقي هذا التحرير مسكوتاً عنه عند رموز معتبرة مثل إدوارد سعيد، ومحمود درويش والياس خوري. وقد سألت محمود درويش في القاهرة لماذا لم تكتب كلمة عن الجنوب المحرر؟ فلم يجب. أعدت طرح السؤال نفسه في مؤتمر ثقافي حصل في جبلة، وكان بين الحضور عدد من رموز ثقافية (أدونيس، فيصل دراج، سماح ادريس). سألت لماذا لم يكتب محمود جملة شعرية واحدة عن الجنوب اللبناني المحرر ولماذا لم يكتب ادوارد سعيد شيئاً فكرياً حول ذلك؟ أجاب سماح ادريس وكان على المنصة: لقد ذهب ادوارد سعيد بصحبة حبيب صادق إلى بوابة فاطمة وألقى حجراً باتجاه فلسطين (إسرائيل). أجبته: هذا حجر رفع العتب. إدوارد سعيد مفكر معدود ليس من أطفال الحجارة. أطالبه بكتابة. نعم كتابة. قال لي الدكتور محمد شاهين في ما بعد وهو أستاذ جامعي محترم في الأردن ومتخصص في الجامعات الاميركية، إنّ إدوارد سعيد أجاب في مقابلة صحافية بالانكليزية مبتهجاً بتحرير الجنوب، وأرسل لي صورة عن المقابلة. نعم إدوارد سعيد باحث ولم يضع تحرير الجنوب في مجرى أبحاثه الفكرية. فيصل دراج لم يجب في تلك الندوة، لكنه خارجها قال لي: أنت على حق.
حسناً مرة أخرى، أنا أفهم عمق اليأس الثقافي المسيطر على الثقافة العربية حول الصراع الجاري وأن يقين الشعراء صعب تجاه الانتصار. ولكن أيضاً كما أن الهزيمة واقع، فإن الانتصار واقع وممكن وله إشارته. دعونا نرى الوجهين معاً، وإلا فنصف الرؤية أصعب من عدم الرؤية.
* شاعر لبناني