صادق الفراجي: سرديات الهجرة العراقية

  • 0
  • ض
  • ض

في معرضه «مسيَّراً بالعواصف» الذي افتتح أخيراً في «غاليري أيام» (بيروت)، لا يُرينا صادق الفراجي (1960) ذلك الكائن الضخم المرسوم بالحبر الأسود في معرضه البيروتي الأول «سيرة حياة رأس» الذي احتضنه «مركز بيروت للمعارض» قبل عامين تقريباً، ولا نرى كذلك فكرة «في انتظار غودو» التي كانت عنوان معرضه الدمشقي قبل خمسة أعوام. الضخامة تضاءلت وتحولت إلى كائن وحيد وصغير يتكرر في أغلب رسومات معرضه الجديد، لكنه لا يزال مرسوماً بالحبر الأسود. أما غودو نفسه، فتحول من فكرة الانتظار إلى فكرة الرحيل. وإذا كان هناك شيء من غودو، فهو تلك الرغبة الملّحة بالهجرة ومفارقة المكان، ولا فرق الآن إن كان المكان عراقياً، بحسب ما هو مقترحٌ في المعرض، بل يمكن أن يكون كناية عن الشرق الأوسط أو ربما العالم العربي كله. يضم المعرض رسومات على شكل اسكتشات مرتجلة وسريعة منجزة في البداية على دفتر من دفاتر الرسام، ثم وُضعت منفردة ومتتالية، بحيث يبدو زائر المعرض كأنه يقلب تلك الصفحات الممتلئة بخطوط وفراغات وأشكال ولطخات، ويقرأ فيها عبارة «اسمي علي وأحلم أن أرحل عن العراق». المعرض قائم على هذه العبارة التي يشرح الفنان العراقي أن ابن أخيه علي (11 سنة) كتبها له في مغلف مختوم، ورسم إلى جانبها قارباً صغيراً تخيل أنه سيأخذه بعيداً عن العراق كما فعل فرّاجي نفسه في هجرته قبل ذلك. القارب والعبارة يتحولان إلى تعويذة الطفل لتحقيق رغبته بالخلاص، بينما يستثمرها الفنان للعودة إلى هجرته هو، متقاسماً مع ابن اخيه علي حلم الخروج من الجحيم الذي سيتحول مع الوقت إلى «فردوس مفقود» في المنفى والمهجر. إنها قصة النزوح العراقي الكبير التي تتكرر اليوم في المنطقة. على ضفتي الواقع والحلم، تتحول الرسوم إلى نوع من التدوينات أو المذكرات الذاتية.

رسم سهل وبسيط يعكس هشاشة الكائن البشري أمام ذاكرته وتجربة الاقتلاع والنفي
إنها «سلسلة من الرسومات التعبيرية المرسومة بحبر هندي، والمصورة بأسلوب طفولي وسردي بسيط»، بحسب ما جاء في نبذة المعرض. وإلى جانب ذلك، يُعرض فيديو أنيميشن قصير اعتمد فيه الفراجي على تحولات الأبيض والأسود والرمادي الموجودة في الرسومات ذاتها. تقليب الصفحات الذي نراه في دفتر الفنان يُترجم إلى تبدلات متتالية على طبقات من الأشكال والخطوط التي تُرسم وتُمحى على بورتريه يُفترض أنه وجه الفنان أو وجه ابن أخيه علي. التغيرات تتوالى مثلما تتوالى الكوارث والحروب وأخبار الحرب والقصف على الأمكنة والبشر، حيث يحلم أو يُجبر كثيرون – مثل عليّ الصغير – على التشرد والهجرة. هناك حميمية ما تنبعث من فكرة اعتماد الفنان على رسومات منجزة أساساً في دفتر. روحية الاسكتش تمنح المعرض انطباعاً طفولياً يتلاقى مع فكرته المشيّدة على حلم الطفل علي، ومع تكرار عبارته أو تعويذته عن الرحيل. إنها سردية إنسانية كبرى مروية بالرسم، وبنوع محدد من الرسم السهل والبسيط يعكس هشاشة الكائن البشري أمام ذاكرته وأمكنته الأولى، وأمام تجربة الاقتلاع والنفي أيضاً. سردية تُؤرّخ للجرح العراقي المفتوح، وتُضاف إلى أشغال وأطروحات أخرى اشتغل عليها الفنان العراقي المقيم في هولندا منذ عقدين. أطروحات غالباً من استند فيها إلى مفاهيم ومفردات وجودية وكونية ممزوجة مع خلاصات وتأملات شخصية. الفن وسيط يقدم خدماته الخلاقة بين هذه المفردات، حيث بات صعباً على فناني العقود الأخيرة أن تنجوا أعمالهم من التيارات المعاصرة وما بعد الحديثة التي قلبت حياة اللوحة التقليدية، وفتحت مخيلات الرسامين على أنواع متعددة من تعبيرات التجهيز والبوب آرت والفيديو والبرفورمانس وغيرها. وحين يضع صادق الفراجي نصاً سردياً كمدخل لمشروع معرضه، وحين يحتوي هذا السرد على ثيمة المعرض كله، فإن ذلك يحوّل فكرة الرسم إلى ممارسة مختلفة، ويضع الرسم نفسه في خدمة المفهوم أو الأطروحة المسبقة أو المحايثة للرسم. وهذا يبدو واضحاً في شغل الفراجي الذي سبق له أن أنجز أشرطة فيديو وأعمالاً تركيبية وتجهيزية، واشتغل على الممكنات الغرافيتية للخط والشكل واللطخة والتعبيرات الجسدية. الكائن البشري الضخم في معرضه السابق ظهر أحياناً بجناحين للطيران، والطفل الصغير في معرضه الحالي يحلم بقارب يأخذه بعيداً عن بيئة القتل وكوابيس الموت والدمار. * «صادق الفراجي: مسيّراً بالعواصف»: حتى التاسع من كانون الثاني (يناير) 2016. «غاليري أيام» (بيروت – سوليدير). للاستعلام: 01374450

  • «يوميات قارب علي 3» (تفصيل ــ 2014 ــ قلم رصاص خاص للغرافيتي)

    «يوميات قارب علي 3» (تفصيل ــ 2014 ــ قلم رصاص خاص للغرافيتي)

0 تعليق

التعليقات