زينة «قدّيسة» رومية

  • 0
  • ض
  • ض

«الجنون» مادة مسرحيّة بإمتياز. الفرنسي أرمان غاتي والبرازيلي أوغوستو بوال، اشتغلا كل من موقعه، في مصحّات نفسيّة. غاتي يقول إنّه عاش خلال تماسه مع «ممثليه» هناك، أرقى لحظات الشعر. المعلّم البريطاني بيتر بروك إهتمّ أيضاً بـ «الجنون».

ليس عمله المستوحى من كتاب عالم النفس أوليفر ساكس «الرجل الذي كان يظنّ زوجته قبّعة»، إلا محطّة أساسية في مسيرة، تبقى ذروتها تجربته مع نص بيتر فايس «مارا - ساد» التي تعتبر من روائع الفنّ الرابع. تدور المسرحيّة في مصح للأمراض العقليّة، حيث يقوم الماركي دو ساد بإدارة «المرضى» الممثلين في عمل من تأليفه عن الثورة الفرنسيّة. عبقريّة بروك كانت في الحفر داخل الشرخ، في التقاط هذه الهشاشة لدى الممثّل، حين يعرى من ذاته ليتقمّص ذوات الآخرين. ما هو الجنون إذا لم تكن تلك درجته الصفر؟ الممثل دائماً على حافة الجنون، والكائن البشري يقف أيضاً على هذه الحافة غير المنظورة بين العقل واللامنطق. ضربة تكفي كي ينتقل من ضفّة إلى الأخرى! الجنون جرح خطير في الوجدان. وجدان انسان اختبر ظلماً عظيماً لا يمكن الاحتجاج عليه الا بالانسحاب من العالم المنطقي، والارتماء في أحضان العبث، واختراع «منطق» جديد لا علاقة له بنا، «نحن» من نظنّ أنفسنا عاقلين ومتوازنين، ما دمنا خاضعين للمنظومة المهيمنة!
ما فعلته زينة دكّاش في عملها الجديد، يتجاوز مسرحة هذا الخلل العظيم. إلى «المجانين» أضافت «المجرمين» (حسب اللغة المهيمنة طبعاً)، كي تُراكِم الجراح الانسانيّة المحجوبة عادةً عن أنظارنا المستقيمة الشريفة. يبدأ العرض من نزلاء «المبنى الأزرق» في سجن رومية، وهو «المأوى الاحترازي» الأوحد في لبنان، للمحكومين المصابين بإضطرابات نفسيّة، فيه يموتون ببطء منسيين من العالم، معتقلين «لحين الشفا»: أي إلى الأبد! اشتغلت معهم بصبر وحب، وغيريّة مدهشة. لملمت حكاياتهم الصغيرة، ثم أعطتها لسجناء «أصحّاء»، بعضهم محكوم بالمؤبد أو الاعدام، ومنهم يوسف شنكر من عملها السابق في رومية «١٢ لبناني غاضب» (2009). شنكر ما زال هنا، وسيفتتح العرض بمونولوغ عن «المؤبّد» والزمن الهارب. أشباح «البيت الأزرق» لا تظهر إلا عبر شاشة فيديو. رجال ضعفاء غائبون عن أجسادهم، تركوا حطام حيواتهم للسجناء الجدعان، كي يعيشونها عنهم (بالاذن من عباس بيضون). كي يشخصونها «لنا»: نحن أي «الجمهور» الطليق المعافى (نخبة النخب من أهل قانون وأمن وسياسة واعلام ودين وطب)، سنعيش «مغامرة خاصة». إنّها لمغامرة خاصة حقّاً، ولوج الأبواب السوداء الشاهقة. سنشاهد قصصاً جارحة، مثل قصّة صاحب «جوهر» الحمار البريختي «المخطوف لدى إسرائيل»، وقد انبعث أمامنا بألوان زاهية على جدران «الزنزانة» الضيّقة التي صارت قاعة مسرح.
تعتدي علينا المخرجة. ترصف المشاهد السوداويّة، المؤذية عاطفيّاً، بالتواتر مع المواقف المضحكة. تؤسلب العنف، تحشد الرجولة الزائدة التي تعتريها أنوثة اصطناعيّة أحياناً (عبر أدوار التحوّل الجنسي). في «مسرح القسوة» هذا (تحيّة إلى أنطونان آرتو نزيل مصحّ روديز أوّل الأربعينيات)، نستعيد جراحنا الجماعيّة والفرديّة، نتأمّل انسانيّتنا المفترضة، نفكّر في الذنب والعقاب، والمسؤوليّة والحريّة. لكن هذا العمل الخاص همّه الأوّل ممثلوه. هؤلاء المحطّمون الذين وضعهم المجتمع على هامشه ليتبرّأ من شراكته في ذنوبهم، تقوم زينة باعادة ترميم ذواتهم المنهارة عبر مرآة السرد والتشخيص، في لعبة دراميّة بنَتْها لبنة لبنة على امتداد أشهر طويلة. التمثيل يحررهم، يعالجهم، يجعلهم يستعيدون مسؤوليّتهم المدنيّة، وانسانيّتهم المقموعة، ثقتهم وكرامتهم، وغيريّتهم إذ يعيرون أجسادهم وأعصابهم وانفعالاتهم، لزملاء عاجزين عن التمثيل… ألسنا هنا أمام جوهر الفنّ المسرحي؟
أي زينة دكّاش نحيّي؟ الفنانة الاستثنائيّة بمقدرتها على ادارة الممثلين الهواة (علاقتها التفاعليّة بهم خلال العرض بليغة)، وتحويل القصص والمآسي والأوجاع إلى دراما وكاراكتيرات، وخلق مشاهد من عيون الفرجة المسرحيّة؟ أم مديرة جمعيّة «كاثارسيس» للعلاج بالدراما التي تمضي وقتها في أقبية الشقاء، بحثاً عن جذوة الانسانيّة؟ أم المناضلة الاجتماعيّة التي تساهم عبر عملها مع حقوقيين وقضاة وبرلمانيين، في تطوير القوانين، وجعلها أكثر حضاريّة وعدالة؟ لنرفع قبّعاتنا لزينة، «قديسة» رومية التي تجترح الأعاجيبب بالفنّ.

0 تعليق

التعليقات