جيم موريسون ومايكل جاكسون كانا هناك، يساندان مجموعة عازفين وقفوا لاستقبال الجمهور بموسيقاهم. «الناس غرباء» تقول الأغنية. كذلك المتفرجون داخل الغرفة الضيقة في سجن رومية التي احتضنت أخيراً عرض مسرحية «جوهر في مهب الريح» (توقيع المخرجة والممثلة زينة دكاش ــ الأخبار 11/5/2016).


يوسف شنكل لا يزال يرتدي البذلة الرمادية مع ربطة العنق. إنها الثياب نفسها التي قابل فيها الجمهور في «12 لبناني غاضب» قبل سبعة أعوام. مع ذلك، يجب الاعتراف بأن هناك ما تغير حقاً، كتسريحته الستينية التي كانت لا تزال تلازمه حتى وقت قريب، قبل أن يستبدلها نزولاً عند نصيحة بعض السجناء الجدد. صار يوسف عماً من دون علمه. كبرت ريما ابنة أخيه وتزوجت. زوجته الأولى أيضاً تزوجت وأنجبت طفلين. قدما أمه استسلمتا لطريق السجن الوعرة، بينما لا يزال يطارد ذاكرته من وراء القضبان منذ 25 سنة. في «جوهر في مهب الريح» الذي يعرض داخل «سجن رومية» (جبل لبنان)، تفقد السنوات هولها ظاهرياً بسبب الخفة التي يعلن فيها السجناء مدة أحكامهم. العرض الجديد هو الجزء الثالث في سلسلة «قصة منسيين خلف القضبان» الذي تعمل عليه «كاتارسيس» منذ عام 2007، ونتج عنه «12 لبناني غاضب» (2009) مع سجناء رومية (وشريط بالعنوان نفسه)، ثم 2012 مع سجينات بعبدا في «شهرزاد ببعبدا» الذي تبعه شريط تسجيلي أيضاً. 40 سجيناً جاؤوا لينقلوا قصصهم المعلّقة، بعد جلسات علاج بالدراما استمرت لسنة ونصف السنة مع دكاش. إلى جانب هذا العلاج، تسعى المخرجة والممثلة اللبنانية إلى تعديل قانون المحكومين بالإعدام والمؤبد، والمرضى النفسيين والعقليين الذين يقبعون داخل المبنى الأزرق في انتظار الشفاء المستحيل.



تتماهى قصص السجناء الشخصية والحميمية مع

سيرتنا المصدّعة



وأمام غياب السياق الدرامي عن العرض، تتوالى المشاهد العبثية والمجرّدة المقطّعة. مشاهد تحاكي عبثية الأحكام وتطبيق القانون وتأخير المحاكمات وعبثية من قضوا حياتهم وحيدين داخل جدران المبنى الأزرق بعد 45 عاماً من الإقامة فيه. يتضمن العرض المتعدد الوسائط مشاهد راقصة (تصميم وتدريب بيار خضرا) وغنائية ومونولوجات، إلى جانب مقاطع فيديو لسجناء المبنى الاحترازي، ومشاهد من عرض «12 لبناني غاضب». مع الإضاءة الضئيلة التي تولى تصميمها بعض السجناء أيضاً، تتسرّب قصص بعض المساجين بأجسادهم العارية. يستعيرون شخصيات سكان المبنى الأزرق. تلك العبارة التي تخفيها خطابات السجناء بينما يعترفون بخطاياهم، ويعرون حيواتهم. تتماهى قصص السجناء الشخصية والحميمية مع سيرتنا الجماعية المصدّعة. وفيما يقع السجناء فريسة التعميم، وذوبان شخصياتهم وملامحهم أمام التنميطات، تسعى زينة دكاش إلى أنسنتهم مع نقد للقانون والدعوة إلى تعديله. هكذا تنبش قصصهم الشخصية والحميمية، وسماتهم الإنسانية الجميلة التي يبدو الجرم أمامها محطة فحسب. في اختيارها للقصص، تتجاوز دكاش فعل الجرم المباشر، ليبدو عملها أشبه برحلة بحث عن أرواح السجناء الأولى قبل أن يُدفعوا إلى ارتكاب الجرائم، وبعدها. الشاب المحكوم بالمؤبد الذي ساعد أخته على الزواج من الرجل الذي تحبه في مجتمع لا يسمح للنساء إلا بالزواج من أبناء عمومهن. شاب آخر ينتظر إعدامه بينما يتولى الاهتمام بنظافة وطعام أحد سجناء المبنى الاحترازي. بين المجتمع العنيف وواقع السجن الأعنف والاستهتار في تصنيف المساجين داخل غرف ملائمة لتهمة كل شخص، يقبع هؤلاء. يشرّح العرض الكامل المجتمع وحروبه وماضيه. إنها قصص بلا نهايات، قصص واعترافات وموت لاحق ومصارعات دائماً للانتحار. يوظف العرض الذاكرة الشخصية لمواجهة النسيان، مقدماً مقاربة ترزح بين العام والخاص. الطفيلي وخليل وفاطمة ومتحول جنسياً وضابط سابق وجدوا نفسهم خلف جدران القلعة الداكنة. بين الاحتلال الإسرائيلي، والحرب الأهلية والفقر الرهيب، والعنف، تتهاوى وجوه المساجين. طفيلي الرجل الأربعيني حاضر بيننا من دون أن يأتي. يظهر السجين موهبة لافتة في أداء شخصيته. يستعيد الرجل ذكرياته في «ديسكو سلوى» في بعلبك، وقصة حبه المجهض، والمجتمع المهمّش في مشاهد الداية التي كانت تضع القنبز للأطفال، وكانت سبباً في إدمانه على المخدرات لاحقاً. هكذا يتحوّل العرض إلى خزان لمآسينا الجمعية، الفقر الرهيب، والعنف، والظلم، والحروب المتتالية. في تلك الأماكن من الذاكرة تتحرك أحداث العرض. خليل الذي صادر الأمن دراجته النارية، قُتل حماره في القصف الإسرائيلي، لكنه بعث من جديد بعد سنوات في مسرحية «جوهر» التي تدور أحداثها في لبنان «المريض نفسياً» كما قال أحمد، في نهاية العمل. أحمد لا يزال ينتظر محاكمته حتى الآن!


«جوهر في مهب الريح»: 15:00 بعد ظهر اليوم و25 أيار (مايو) ـــ على أن يقدم فيديو العرض بعد شهرين في إحدى الصالات في بيروت ــ للاستعلام: 03/162573.