كان ذلك، من فترة، في أحد مسارح بيروت. قبل العرض، وقفت مخرجة المسرحيّة التي تتناول المأساة السوريّة، وصادرت الجمهور: «كل الأحداث التي ستشاهدونها حقيقيّة». أي شعور بالنقص جعلها تقول ذلك؟ فاتها أن حقيقة الإبداع غير حقيقة الواقع، وأن العلاقة الجدلية بينهما تحدّد فرادة العمل.في الفنّ، ليس مهمّاً أن تروي الحقيقة، بل أن تكوني حقيقية في طريقة روايتها! وتلك التجربة التي نتحدّث عنها من دون ذكر اسمها، قتلها الاصطناع والافتعال والاختزال، ورغبة جامحة (أيديولوجّة؟ تسويقيّة؟) في ركوب موجة «الربيع العربي».
كان لا بد من مشاهدة تحفة سليمان البسام التي عُرضت أخيراً في بيروت ضمن «مهرجان الربيع»، كي نتحرّر من ذاك العبء القديم، فنقول رأينا في مسرحيّة أخرى، سابقة، بعد أسابيع على مشاهدتها. كأن هذا المسرحي الكويتي المميّز (اللندني والباريسي أيضاً)، حرّرَنا أخيراً، عبر طقسه «السوداوي» الشائك والكثيف والصعب والمؤلم. قدّم لنا نموذجاً مغايراً لما يمكن أن تكون عليه مقاربة الجرح العربي المفتوح. مسرحيّة البسّام تجمع بين النضج الفنّي (نصاً وإخراجاً وإدارةً للثنائي الأنثوي الآسر: ريبيكا هارت وحلا عمران)، والمهارة التقنيّة في ضبط الاحتفال التراجيدي (الإضاءة والسينوغرافيا: إريك سوييه، الموسيقى: بريتاني أنجو…)، مضافةً إليهما شجاعة سياسيّة ونزاهة فكريّة عالية. بعمله الذي يختمر فنيّاً منذ العام 2012، يومَ بدأ محاولة جنينيّة في «معهد العلوم السياسيّة» في باريس، وصار عنوانه العربي «الربيع المختطف»، أعادنا إلى السؤال نفسه: ما هو «الحقيقي» في الفنّ؟
سليمان البسّام الذي لفت أنظار العرب والعالم، منذ أواخر التسعينيات، في شغله على التراجيديا الشكسبيريّة تحديداً وتطبيقها على الواقع العربي («مؤتمر هاملت»/ 2002، «ريتشارد الثالث: مأساة معربة»/ 2008 …)، وقارب الجرح السوري من خلال نص سعد الله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات» الذي أدخله إلى «الكوميدي فرانسيز» في باريس (2013)، يخوض هنا مجدداً في غياهب كابوسنا العربي. يتناول عبر سبع لوحات، بأسلوب المونولوغ السردي، وجوه المأساة التي تعصف بالعرب والمسلمين، من دون كليشيهات ومؤثرات مزيّفة. لا يستجدي البسّام تعاطف الجمهور، بل يصدمه ويحطم بعض محظوراته وأفكاره المسبقة. يشيّد عمارته المشهديّة بالأعصاب المشدودة والآهات والصور والحكايات، بالدمع والعرق، بالظلال والانفلاتات الصوتية والجسديّة التي توازي النص الكثيف الصعب، القائم على التداعيات، المغمّس بالشاعريّة والتجريد. يحرك مبضعه في جرحنا الجماعي: يوغوسلافيا، سوريا، فلسطين، العراق، لبنان، الخليج… يسمّي القاتل بشجاعة، مخالفاً الموضة الرائجة، ومتمرّداً على ديكتاتوريّة النموذج المهيمن في الإعلام، ومتفادياً سموم اللائق سياسياً التي يتجرعها معظم المبدعين العرب كي ينجحوا في الغرب. في بيروت صفّق له الجمهور، لكن صالة «دوّار الشمس» بدت حذرة وحائرة، مترددة وفاترة. هل السبب نصّ المسرحيّة الصعب والمجرّد؟ أم أن هذا الجمهور اعتاد خطاباً من نوع آخر، قوامه المدائح «الثورية»، والديماغوجيّة على طريقة المخرجة التي بدأنا بها المقال؟