اختتمت أخيراً الدورة 18 من «مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة» بعد عرض مجموعة من أبرز الأفلام العربية والأجنبية مثل الشريط الإيطالي «بين شقيقتين» الذي حاز جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل في المهرجان. يصور المخرج الإيطالي مانو جيروسا العلاقة التي تجمع بين أمه أورنيلا وأختها الثمانينية تيريزا، مشرّحاً بدقة وحميمية التفاصيل الصغيرة التي تشكل هذه العلاقة والسر العائلي القديم الذي يؤرق أورنيلا، وتيريزا ترفض البوح به. علاقة أورنيلا وتيريزا ليست فريدة، فالعديد قد يتماهي معها ويرى فيها شيئاً من نفسه أو عائلته. لكن من هنا تتأتى خصوصية هذا الفيلم الذي ينجح فعلياً في نقل الواقع الشخصي والحميمي إلى الشاشة، وتحويله إلى السينما عبر عين المخرج الروائية، من دون الوقوع في فخ المجانية التي قد يقع فيها هذا النمط من الوثائقي. هو يلتقط الحميمية بدون تحطيم الخصوصية أو التعدي عليها. تيريزا وأورنيلا هما بطلتان لا تمتّان للبطولة بصلة. شقيقتان متقدمتان في العمر وليس لهما إلا بعضهما. رسم لحياة لا يحدث فيها الكثير، ومن الصعب تخيّلها سينمائياً. لكن ذلك الواقع الذي يجسد كل الثيمات التي نتجنب ذكرها لثقلها كالشيخوخة والوحدة والخسارة، يخلق منه المخرج جمالية فريدة... من الجلد المجعد المثقل بالزمن، النسيان، أو ثقل السمع الذي تعانيه تيريزا أو قمصان نومها المطرزة. كل تلك العناصر والتفاصيل تنبض بالحياة كما يصورها المخرج، ولا تخلو من حس طرافة حاضر في كل المشاهد. لا يبدو أن هناك أروع من بطلة كتيريزا التي لم يعد لديها شيء تخسره، والحرية الداخلية التي قد تتأتى من ذلك. في الإطار الوثائقي العائلي عينه، تصور المخرجة المصرية كوثر يونس في فيلمها التسجيلي الطويل «هدية من الماضي» رحلة والدها إلى روما للبحث عن حبيبته التي هجرها منذ أكثر من ثلاثين عاماً ووعدها بالعودة. الرحلة هي هدية المخرجة لوالدها في عيد ميلاده الخامس والسبعين الذي يرفض السفر في البداية، ومن ثم يقتنع بعد جهود المخرجة الحثيثة لإقناعه. الفيلم بأكمله مصور عبر كاميرا الهاتف بدون دراية من الشخصيات. رغم اللقطات الحميمية والطريفة التي يرصدها، ونقطة انطلاقه المبتكرة وأسلوب التصوير التجريبي عبر كاميرا الهاتف، والتقاط المخرجة زوايا مختلفة وغريبة أحياناً، إلا أنّها ليست بالضرورة ذات جمالية خاصة أو انتقائية في أغلبها. ما هو واضح أن الحميمية والعفوية التي تلتقطها المخرجة هي أساس الفيلم، لكن ذلك يضع المشاهد أحياناً في حالة تلصص على الخصوصية قد تشبه تلفزيون الواقع. من هنا الجدلية التي يطرحها الفيلم. أيضاً من الأفلام التسجيلية المصرية الطويلة البارزة في المهرجان، شريط «توك توك» (جائزة أفضل فيلم مصري) لروماني سعد. يصور الأخير حياة الشبان الذين يقودون موتوسيكلات التوك توك في شوارع القاهرة. ومن لبنان، نال وثائقي هادي زكاك «كمال جنبلاط: الشاهد والشهادة» تنويهاً خاصاً من لجنة التحكيم في المسابقة الرسمية للأفلام التسجيلية الطويلة. يعيد زكاك تجميع أجزاء سيرة الراحل كمال جنبلاط وإحياء حقبة شبه منسية من تاريخ لبنان. رحلة تدفعنا مجدداً إلى طرح سؤال يفرض نفسه في معظم أعماله: هل من الممكن أن يتحقّق إجماع على جزء من تاريخ لبنان؟ أيضاً من الأفلام المشاركة «طرق حجرية» (جائزة لجنة التحكيم الخاصة) للمخرج الأرمني أرنوه خاياد جانيان الذي يعود إلى تركيا ليبحث في تاريخ الذاكرة الجماعية للإبادة الأرمنية، ومجموعة سرية تدعى «الصالحين». هذا من حيث الأعمال الطويلة في المهرجان، فماذا عن الأفلام القصيرة بين تسجيلي وروائي وتحريك؟ ومن الأعمال اللافتة في فئة الأفلام الروائية القصيرة، شريط «حار جاف صيفاً» لشريف البنداري الذي نال جائزة act في المهرجان. أما «عشاق المنزل» للأوسترالي ياني وارنوك الذي شارك في المسابقة الرسمية، فأسلوبه يشبه الكوميديا السوداء. يعرض المخرج العلاقة المفككة بين ثنائي يعاني من الضجر والاكتئاب. بينما الزوج يحاول الانتحار في الحمام عبر لف جسده بأضواء شجرة الميلاد، تمارس الزوجة في المطبخ الجنس الافتراضي مع رجل آخر على «السكايب» فيما تعدّ وجبة الطعام. ينسج المخرج إيقاع الشريط بمهارة، رغم أنّ كلاً منهما في عالمه، إلا أنهما متصلان عبر القابس الكهربائي. فكلما حاول الزوح الانتحار، فصلت الكهرباء، فتذهب المرأة لرفعه، كي تكمل محادثتها على السكايب، من دون أن يدري كل منهما ما يفعل الآخر. ويتناول فيلم «منطقة محرمة» للمخرج الكرواتي برانكو إيسفانتشيك حرب البوسنة والتقاء جنود الجيش الكرواتي مع خصومهم وأصدقائهم سابقاً من الجيش البوسني في حانة مهدمة أثناء بحثهم عن الكحول. هكذا، تتحول الحانة إلى مكان محايد ومعزول عما يحدث في الخارج ويظل الجنود من الجهتين متنازعين بين الخوف والاطمئنان. فيلم يشبه في ما يصوره الحرب الأهلية اللبنانية. أيضاً من الأفلام التي تتمتع بجمالية سينمائية خاصة في مسابقة الأفلام التسجيلية القصيرة، الشريط الفنلندي «أميال مقطوعة قبل أن أنام» الذي حاز جائزة أفضل فيلم تسجيلي قصير في المهرجان. المخرجة هانا هوفيتي تروي هنا قصة «أشاة» الفتاة التي انفصلت عن عائلتها في الكونغو عند تبنيها من قبل عائلة فرنسية، ليعتدي عليها الزوج، ثم تكتشف لاحقاً أن عملية تبنيها المزعومة لم تكن سوى عملية إتجار بالأطفال، حتى العائلة التي تربّت لديها في الكونغو ليست عائلتها الحقيقية. أيضاً من الأفلام السورية المشاركة في المسابقة «البحث عن عباس كياروستامي» للأخوين ملص. الشريط الذي يتخذ منحى تجريبياً، يصوّر رجلاً سورياً يحمل صورة كياروستامي ويجول في باريس بحثاً عمن يدله على طريقة للتواصل معه بهدف إقناع حكومته بإيقاف تدخلها في سوريا. مشكلة الفيلم أنه يبقى فكرة أكثر منه فيلماً فعلياً. أيضاً، عرض «٩ أيام من نافذتي في حلب» لعيسى توما، وفلور فان دي ميولن، وتوماس فروج. يوثق الأول من شرفته في آب (أغسطس) ٢٠١٢ على مدى تسعة أيام ما يحدث في الشارع. وحضرت المأساة السورية أيضاً من خلال فيلم «سالي» للمخرجة زهرة البودي التي تصوّر سالي التي استشهد أخوها في الطريق من الرقة إلى اللاذقية على يد إرهابيين كما تعرف المخرجة.
أما في فئة أفلام التحريك، فنال «موج ٩٨» للبناني إيلي داغر جائزة أفضل فيلم تحريك في المهرجان، علماً بأنّه كان قد حاز السعفة الذهبية للفيلم القصير في «مهرجان كان السينمائي» الأخير. كذلك من الأفلام الطريفة والمعبرة «الله لا بد أنه أصم» (سريلانكا) لكاوشاليا باتيرانا الذي يصور سكان قرية صغيرة، ينتمون إلى ديانات مختلفة من الإسلام إلى البوذية إلى المسيحية، وكل واحد منهم يحاول منافسة الآخر وهزمه عبر رفع صوت مكبر صوت المسجد أو جرس الكنيسة أو الترانيم البوذية. بناء رموز دينية مضخمة تنتهي بأن تسحقهم جميعاً. من الأعمال المميزة أيضاً، فيلم «السيد» (أستونيا) لريهو أونت، الذي يصور العلاقة بين قرد وكلب، كلاهما خاضع لسيده. لكن حين يغيب السيد، ويخرج القرد من القفص، يمارس على الكلب، الحيوان الأضعف، وسائل الإخضاع البشرية نفسها التي هي في الأصل حيوانية. ما يميز الوثائقي هو تقنية الثلاثية أبعاد المشغولة بعناية وجمالية، تجعل الشخصيات تبدو أكثر تعبيراً من تلك الحقيقية.