في معرضه «إيكاروس» الذي افتُتح في غاليري Art on 56th، لا يُشغلنا الرسام السوري إدوار شهدا (1952) بموضوعات لوحاته المعروضة التي يستثمر أغلبها أسطورة إيكاروس الذي طار نحو الشمس بجناحين من شمع، بل يُذكّرنا بذلك التراكم الثري والخلاق الذي حققته تجربته داخل المحترف السوري. يستطيع المتفرج أن يركّز على لحظة المعرض والأعمال المعروضة فيه طبعاً، إلا أنه لن يستطيع تجنّب تلك الإشارات والإيحاءات والممارسات اللونية والإحالات الموجودة في اللوحات نفسها، التي تبدو مثل طبعات آنية تنقل تأثيرها بمفعول رجعي إلينا.
نحظى بفرصة وصل ما نراه للتوّ بما رأيناه وبما نعرفه عن تجربة شهدا التي ـــ في الوقت نفسه ـــ لا يمكن عزلها عن جيل كامل من الفنانين السوريين الذين ترسخت تجاربهم ابتداءً من نهاية سبعينيات القرن الماضي، وتحاورت أعمالهم مع تجارب أهم وأبرز رواد المحترف السوري. وفي ما يخص إدوار شهدا، يمكن بسرعة ذكر فاتح المدرّس (1922 – 1999)، ومحمود حماد (1923 – 1988) والياس الزيات (1935) كأسماء تربّت تجربته في ظلالها، قبل أن تنطلق باستقلالية ذاتية ومزاج شخصي منفتح على تأثيرات لاحقة ومتعددة.
بطريقة ما، ظلت تجربة إدوار شهدا سوريّة الطابع. ليس القصد أنها محصورة بهوية محلية ضيقة، بل بتغذيّها المتواصل من التراث السوري والمشرقي عموماً، ومن التعبيرات الشعبية والدينية والميثولوجية لهذا التراث. معرضه الجديد لا تزال فيه مراهنات فنية على عناصر وجزئيات من هذه التعبيرات المتنوعة، بل إنّ حضور أسطورة إيكاروس هو تأويل إضافي على ميول إيديولوجية وثقافية واجتماعية راسخة في تجربة شهدا وأغلب أبناء جيله. إنها السبعينيات السورية التي كانت تجد نبراتها وممارستها الطليعية في الرسم والشعر والقصة القصيرة والنقد واليسارية السياسي. لوحة إدوار شهدا آتية من هناك، ولا تزال تستظل بتراكمها الذاتي رغم التطورات والتحولات التي طرأت في العقد الأخير على الفن السوري وانفتاح تجارب الرسامين الشبان على أسواق الفن المعولمة وغاليرياتها ومزاداتها الكبرى. إيكاروس ترميز للبحث عن الحقيقة التي تكلف الباحث نفسه موته. ولعله حاضر في العدد الأكبر من لوحات المعرض كتأويل لما يجري في سوريا اليوم. ولعله أيضاً يتسع لتعبيرات فنية متحررة من قوة الرمز وواقعيته المباشرة.

تغذّت تجربته من التعبيرات الشعبية والدينية والميثولوجية

تكرار الرمز على شكل إنسان بجناحين، وفي وضعيات مختلفة على سطح اللوحات، يجعلنا ننتبه إلى العناصر الأخرى في هذه اللوحات الخاضعة لتأليفات وسيناريوهات شكلانية ولونية لا تُختزل بالرمز الأسطوري فيها. بوسائط مختلفة تتضمن اللون والحبر والكولاج، يرسم إدوار شهدا لوحته التي يعرف أسرارها ورحلتها الارتجالية والواعية في مخيلته. لا يزال تأليف اللوحة يقوم على طبقة مرئية قائمة فوق طبقة أو طبقات مرسومة تحتها، ولا تزال أجزاء وأطياف منها مرئية. يضع الرسام لوناً فاتحاً وباهتاً فوق أشكال منجزة بألوان أغمق قليلاً. تكنيك يمنح ثراء وخصوبة تظل خافتة ومحتفظة بالعلاقة ذاتها مع المتلقي. المتلقي دوماً متروكٌ وحده مع اللوحة في غياب أي بهرجة أو زوائد وإنشاءات مجانية. تفتقد أعمال شهدا إلى «البلاغة التقليدية» إذا استعرنا لغة النقد الأدبي، وأحياناً يتراءى لنا أن كثافة حضور «إيكاروس» في اللوحات «يؤذي» التأليف السري والشفاف الذي تحجبه اللوحة عنا، فهو يدعونا إلى التركيز عليه، بينما «يمكن» أن تفوتنا تفاصيل آسرة في شباك صغير يلمع بين بيوت صامتة، أو ملامح شبه ممحوّة في وجوه وأشكال بشرية، أو في امرأة تضع يدها تحت خدها في لوحة بعنوان «انتظار الغائب»، والغائب مجهول ومعلوم. ربما يكون غائباً في الحرب الدائرة الآن، ربما يكون شهيداً أو مفقوداً أو مهجراً أو نازحاً، وربما يكون تأويلاً لبلد كامل في طريقه إلى الاحتراق والفقدان، وربما يكون الإنسان الطائر هو ملاكه الحارس أيضاً. لوحة إدوار شهدا هي «لوحة أسرار»، كما وصفها يوماً يوسف عبدلكي. إنها أسرار تعقد حديثاً هامساً مع زائر معرضه الحالي، وتورطّه في التأملات والتأويلات. الرمز الواقع لعنوان المعرض لا ينجح في منع استغراقنا في تأليف هذه اللوحات التي تستثمر بمهارة عالية فنون الإيقونة السورية ورسوم الواسطي وتشخصيات البورتريه وانطباعيات التجريد الغنائي أيضاً.

* «إيكاروس» ادوار شهدا: حتى 30 ايار (مايو) ــــ غاليري Art on 56th (الجميزة). للاستعلام: 01/570331




ابن التشخيص

الإنسان هو مكون أساسي في تجربة إدوار شهدا، مما يعني أن الفنان السوري انشغل في مراحل مختلفة بالتعبيرات التشخيصية الممزوجة أحيانأً بغنائية عذبة وموحية للخطوط والألوان والموضوعات. الإنسان وحيداً أو مع آخرين. في نسخة من «العشاء الأخير» أو منتظراً شيئاً لا يأتي. الإنسان امرأة أحياناً أو رجل أحياناً أخرى. شهدا هو ابن التشخيص في المحترف السوري، وهو إحدى إضافات هذا التشخيص، ومعرضه البيروتي يذكرنا ببصمته الخاصة داخل تلك الممارسات التي طوّرها فنانون كثر، بعدما خاضها عدد من الرواد أيضاً.