عبد المجيد زراقط
يلاحظ قارئ قصص نجيب محفوظ القصيرة انها تخرج على القالب الغربي وقواعده وأصوله، ولا تتقيد به. وقد أشار هو الى ذلك في حديث الى مجلة «آخر ساعة» (28/7/1982)، أي انه كان يترك للتجربة ان تحدد خصائص النص، لا ان يصدر النص عن قواعد مسبقة. أما روايات محفوظ، وخصوصاً «الثلاثية»، فميزتها أن الفصل يمثل وحدة مستقلة، وفي الوقت نفسه يشكّل أحد مكونات الرواية التي تؤدي دوراً في انتاج الفعالية الجمالية والدلالية. وهذه الميزة تعود الى تأثير القص التراثي على الكاتب، وخصوصاً «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، حيث تنتظم الوحدات القصصية المستقلة في بناء يعرف ببناء القصة ــ الاطار.
ويعتمد الراوي، في قصص محفوظ، تقنية متميزة هي «التصوير السردي» قوامه الفعل/الحركة ويدلّ على سلوك الشخصية، ومن ثم على خصائصها ومواقفها. وهذه الميزة الأسلوبية التي تميز بها تراثنا السردي، وخير مثال عليها «كتاب البخلاء» للجاحظ، يأتي فنّ محفوظ القصصي امتداداً وتطويراً لها. وإذا نظرنا عن كثب الى روايته، نجد أن التأثر بالتراث يشمل أحياناً، بناءها العام وسياق نموها المتشكل ليكشف رؤية الى قضية الوجود الكبرى وسبل إدراكها. واذا حاولنا تبين ذلك، على سبيل المثال، في «أولاد حارتنا» التي كثر الكلام عليها، فإننا نلاحظ اولاً ان الشكل الذي اتخذته الرواية هو تطوير لشكل قصصي تراثي عريق، أثير لدى المتلقي العربي، وهو السيرة الشعبية. أفاد محفوظ من هذا الشكل الذي تندرج فيه الوحدات القصصية منتظمة في بناء كلي، في الوقت الذي يمكن ان تكون فيه كل وحدة نصاً قصصياً مستقلاً.
وضمّن الكاتب المصري الكبير هذا البناء القصصي الفريد، رؤية الى قضية الوجود الكبرى، وسبل إدراكها، وهي قضية الايمان. يقول نجيب محفوظ في رسالة إلى أنيس منصور: «وقضى ربك ان أكون من أصحاب القلوب لا العقول، ولا مناص من الرضى بقضاء الله». الكاتب يعتبر نفسه من أصحاب القلوب لا العقول، وهو في رواية «أولاد حارتنا» يرى من هذا المنظور، فيشيّد بناءً روائياً ناطقاً بتلك الرؤية.
يقول أصحاب القلوب، على لسان المتصوف الاسلامي الكبير، فريد الدين العطار: «العشق نار هناك. أما العقل فدخان، وما إن يقبل العشق حتى يولي العقل الفرار مسرعاً. العقل يأتي لك بما يأتي به غربال ماء من بئر».
يبدو ان تجربة محفوظ في «أولاد حارتنا» تصدر عن هذا المنظور، وهو ليس ببعيد عن الاتجاه الذي تمثله منظومة «منطق الطير» لفريد الدين العطار. مثل العطار يرى محفوظ ان العلم/العقل عاجز عن الوصول الى المعرفة الالهية، لأنه «دخان» ويأتي بما يأتي به غربال ماء من بئر... بتعبير العطار. ولأنه متمثل بـ«عرفة» في «أولاد حارتنا» كما يرى محفوظ، لا يجد في مقام الجبلاوي أحداً. فهو يحتاج الى معرفة من نوع آخر. إن معرفة العشق معرفة اشراقية تقتضي سفراً، وهذا «السفر» نقع في «منطق الطير» على مراحله الموصلة الى الكمال.
ولنجيب محفوظ في أصداء السيرة الذاتية ما يفيد أن الإيمان إشراقاً يحمي من الشعور بالعبث والفناء، ويدفع الانسان الى السعي نحو تحقيق الكمال. وهذا هو السفر الذي لا يقدر عليه «عرفة»/العلم/العقل، ولهذا هو غير محمي من ذلك الشعور المدمر، وغير خليق بالسعي الى الكمال، بل غير خليق بالتحلي بالصفات المميزة للإنسان. وهذا ما تجلى في مجازر العدوان الهمجي الأخير على لبنان: الاسرائيلي يملك من انجازات العلم الكثير، ولا يملك القليل من صفات الانسان الساعي الى الكمال. وهذه هي مشكلة انسان العصر الحديث الكبرى.
وإذ نعلم أن أصول هذه المنظومة/الرواية تعود الى أشكال عدّة من التراث القصصي العربي الإسلامي، ندرك عمق تجربة نجيب محفوظ التراثية.