باريس | «قل إنك تحبني، قلها مرة ثانية». يعرف الحب نظام التكرار، الإصرار على الكلمة، الإعلان الجديد دائماً. لا يقتصر على «غليان القلب وثوراته عند لقاء المحبوب» كما أورد ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة» بل يتطلب الاستئناف والرعاية. إنه بناء وحياة تُصنع. غير أننا بقينا كلٌّ بمفرده في زمن تويتر ومواقع التعارف الالكترونية، مُطالَبين بالاكتفاء بالأعطيات الرقمية التي تسحقنا، نرعى الحب بطريقة الأطفال الكسالى، مُنتقَصاً ومختزَلاً بالسمايلي والهاشتاغ.
«خذ حذرك إن أحببتك!» تقول الأغنية الشهيرة «هابانيرا» (أو «الحبّ عصفور عصيّ») في أوبرا كارمن التي ألّف موسيقاها الفرنسي جورج بيزيه، وشغلت الكثير من الفنانين بتقديمها على خشبة المسارح وشاشات السينما برؤى مختلفة. تتغنّى أبيات العمل بالحبّ، مشبهة إياه بالطائر الجامح الذي لا ينصاع للقيود والأعراف وواجبات العائلة. في نسخته الخاصة من الـ «هابانيرا» التي أطلق عليها عنوان «كارمن»، يوجّه المغني البلجيكي ستروماي (1985) مرآة عاكسة لظاهرة الحب «الرقمي» الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يلتقي العشاق ويبتعدون - كما في إخراج مسرحي مثالي عن الحب المأساوي- مُرهقين، مُبللي الرموش، مُفتعِلين الحداد مُضاعفاً بعبارات مُستعارة من «المياه كلها بلون الغرق» أو من أوبرا إيطالية شائعة: Addio mia bella addio .
«الحب مثل عصفور تويتر نغرم به لمدة 48 ساعة فقط»، نشعر بالفشل والعار حين يدلّنا صاحب ألبوم «تشيز» (2010) على بؤرة المرض الذي استحوذ علينا بشكل كامل حتى بتنا عاجزين عن تحديد فداحته. تتدفق الكلمات باتجاهنا كإهانة طويلة، رفسة على قفا المشاعر التي يشبهها بـ«عملية العرض والطلب». الحب الذي كان «طفلاً غجرياً» قبل 140 عاماً في «كارمن» بيزيه، أصبح «طفل العالم الاستهلاكي الجشع الذي لا يشبع» بعدما اكتسبنا موهبة التقلُّب، نتمايل ونتأرجح مع أكثر من نافذة «تشات» مفتوحة في وقت واحد، عبر الزجاج المشوّه الذي يفصل بيننا، نتبادل تعبيرات الوجه الهزلية وعبارات الحرمان المجنونة والكلمات غير المسؤولة ككتلة من السُكّر المغزول.
تقول لعنة صينية: «فلتعِش في الأزمنة الهامة»! إذ يدرك الصينيون أن الأزمنة الهامة هي فترات اضطراب وارتباك. ونحن نحيا اليوم زمناً هاماً بُني من أخطاء المصادفات ونزاعات الهوية وشهوة اللعب. نحن شهود عيان على عصر جديد، بحقيقة جديدة، تشكّلَ ونَمَا: هو عصر الافتراضي مقابل أفول مفجع للواقع. في هذا السياق، استخدم المفكّر الفرنسي جان بودريار في كتابه «النسخ الشبيهة والمحاكاة» حكمة توراتية منسوبة إلى الملك سليمان تقول: «إنّ النسخة الشبيهة لا تخفي الحقيقي البتّة، بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي. إنّ النسخة الشبيهة هي حقيقية». ويعتبر بودريار من أوائل من لمحوا تأثيرات الوجود الافتراضي، فشرح مفهومه عن «الواقع الفائق» Hyper Reality، الذي يصف العيش الحاضر المتمازج بين الافتراضي والحقيقي. لكن لنسلّم بوجود ازدواجية أليمة حوّلت «العلاقات الاجتماعيّة» في مواقع التواصل الى جحيم اغتراب مطلق والى عزلة استهلاك سلبيّ وعنيف لحيوات الآخرين.
كان كلّ منا مُحاطاً بهالة مميّزة، بهوية مُحدّدة لا تُنتهك. ومع دخولنا الشبكة، ذابت تلك الفروق المميزة وأصبحنا جميعاً متشابهين بشكل أو بآخر، وطبعاً أبعد ما نكون عن أنفسنا. نتقمص «البروفيل» كنموذج إنساني موحَّد يجبرنا على العيش في كنفه وتحت إمرته مُتقَوْلِبين وفقاً لتوقُّعات «الأصدقاء». هذا الخسران للفردانية، نتلمسه في كتاب «افتقدتكم، حكاية اكتئاب فرنسية» للصحافي ومحلل السوشيال ميديا في إذاعة europe1، غي بيرنبوم الذي صدر أخيراً عن دار Les Arènes. بيرنبوم لم يكن يرى العالم إلا من خلال شاشة الكمبيوتر، يرسل ويستقبل ويتفاعل ويعقّب ويستفسر ويعلّق في المدوّنات وفضاءات الدردشة ومنتديات الحوار ويبدي رأيه في كل المواضيع: السباغيتي، رقصة الفالس، السيارات، نتائج سباق الخيول، حجم مضارب الكريكيت...

يُفتتح الأنيماشن بطائر تويتر
الأزرق مزقزقاً على نافذة ستروماي الطفل

قبل أن ينزلق نحو الانهيار العصبي بسبب الإفراط وتوتر الذاكرة. يقول: «بلغت تلك النقطة التي أشعر فيها أنني قدّمتُ أطروحة دكتوراه من 800 صفحة، حين أكتب «غناء شارلوت اليوم كان دون المستوى في لانوفيل ستار» ويدوّي التصفيق، 145 ألف متابع على شبكات التواصل الاجتماعي يهللون بأنني رائع! العجرفة والرضى عن الذات دفعاني إلى الإدمان». بيرنبوم تكيّف مثلنا مع عالم لاهث لا تتجاوز العبارات المكتوبة فيه الـ140 حرفاً على تويتر، لكنه لم يستطع تدارك انهياره الداخلي حين شرع في قراءة «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست. «كتب بروست نصه على مهل شديد، نص طويل ولا ينتهي، لم أحتمل ذلك، انهرت مع بروست، بين ذراعي بروست». وربما انهار أندريه جيد هو الآخر بعد قراءة 4300 صفحة، وقد قال مرّة عن بطل رواية «آلام فرتر» لغوته «انتهيت من إعادة قراءة فرتر مع بعض السخط، كنت قد نسيت أنه يأخذ وقتاً طويلاً كي يموت!».
«أشعر بالبرد، فلنعد» يتراجعُ من يرى نفسه فجأة عالقاً في الفخ، مُجمّداً في وضع مستحيل وهزلي، في حين يفقد من يسقط في هوّة الافتراض حسّه بالقيمة وبالكاد يرتعب من الجذام غير المرئي الذي ينخر مساحات كاملة من شخصيته، وهذا عائد لما يصفه كليمان روسي بـ «الإحساس بالوجود السطحي بالنسبة للواقع، الإحساس بأن العالم أو الأنا غير موجودين بشكل فعلي، أو أنهما لا ينتميان إلى النمط من الوجود نفسه». لذلك، أوردت الصين وسيلة للعلاج من هذا «التنويم» بالانخراط في معسكرات تدريب قاسية، حيث يقوم جنود سابقون بمراقبة المدمنين من خلال عملية إعادة تأهيل يخضعون خلالها لفحوص نفسية وتدريبات بدنية مكثفة لفترات قد تصل إلى ستة أشهر، لكن أي علاج لمرض الحب؟ «عندما يصبح الدواء داءً، ما الذي يعود يُشفي»؟
«أحبك» بمجرد أن تقال تصبح حقيقة إلى حين. لا يؤمن العاشق بالتأويل، يعتبر كل كلمة علامة على الحقيقة، لا شيء متروكٌ للإيحاء أو التنجيم. مقابل ذلك، العاشق «الرقمي» لا يحصل إلا على أجوبة غامضة وعائمة. يطول الغياب ويلزمه تحمله، فيتلاعب به مُنتجاً اللغة التي تبدأ مهمتها الطويلة كشيء مضطرب ودون جدوى، ثرثرة ومراوغة وتمرّغ في الوحل من أجل حفنة هواء قادمة. «أريد رؤيتك فقط/ عند غروب الشمس/ بكل بساطة/ أريد أن أراك عندما تغرب الشمس/ لا شيء أكثر من ذلك» غنّت كاسندرا ويلسون الانتظار الذي يولّد الشكوك والتوبيخ والرغبات. وفي لحظة مجهولة تُفتح أبواب النجاة أمام العاشق، فينهض مثل نائمة الغابة المسحورة ويرغب في الضحك والبكاء في آن، لأن ألمه «يرافقه خلسة شيء آخر يقترب من النكتة، لكنه ليس نكتة، شيء يثير الهلوسة، يشبه قليلاً إيماء منديل الساحر بعد أداء خدعة».







في سوق الاستهلاك


يقف ستروماي على حدة بين مُعاصريه، خلقت موسيقاه مساراً جديداً أطلق عليه تسمية «البُوب الأخلاقي» وضمّ ألبومه الأخير «جذر تربيعي» (2013) أغنيات تمتثل للواقع وتتفحص قسوته مثل Papaoutai (عن ذكرى رحيل والده خلال الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في حرب رواندا الأهلية) وTous Les Mêmes (كلّهم متشابهون) وformidable التي شهدت نجاحاً كاسحاً. أما أغنية «كارمن»، فقد تشارك تأليفها مع مغني الراب الفرنسي أوريلسان وانطلق الكليب على موقع «بازفيد» الشهر الماضي من إخراج الفرنسي سيلفان شوميه الذي يعدّ من أبرز رواد سينما التحريك المستقلّة، حصد فيلمهl›illusionniste «الساحر» (2010) جائزة «سيزار» عن أفضل فيلم رسوم متحركة.
يُحيط شوميه بمراحل تشكّل العزلة تحت وهم الانتماء إلى الافتراض. يفتتح الأنيماشن بطائر تويتر الأزرق مزقزقاً على نافذة ستروماي الطفل. لكن الزقزقة البريئة سرعان ما تتحوّل إلى نداء لجوج وصارم يسلبه من حياته ويزج به في عالم هزيل ومجازي. ومع تضخّم عدد متابعيه على تويتر وإنستغرام، يكبر حجم الطائر الذي يعتاش على لحظاته الحميمة ويطالبه بالمزيد من الرعاية التي تشبه الالتزام، ما يثير سخط حبيبته فتتخلى عنه. تتكرر لازمة «هكذا نحب وهكذا نستهلك» مؤكدة عزلة دامغة لا فكاك منها. نرى بطل الحكاية ينطوي على نفسه في صمت عميق، وحيداً في السينما وفي حفلة عيد ميلاده، يلتقط صور «السيلفي» التي يبدو فيها كشبح مُشوَّه، كمُحاكاة ساخرة لنفسه. يترك لنا شوميه الفظاعة الكبرى إلى النهاية، حيث يصل مستخدمو تويتر ومن بينهم شخصيات من مشاهير عالم الفن والسياسة إلى طائر أزرق عملاق يبتلعهم تباعاً كما يبتلع كرونوس أطفاله.