يعرض جان بوغوصيان (1949) لوحة واحدة تنتمي إلى الرسم التقليدي إلى جوار 150 عملاً آخر في معرضه الضخم «بين نارين» الذي يستضيفه «مركز بيروت للمعارض». جزءٌ من حضور تلك اللوحة الوحيدة هو أن تكشف المسافة التي قفز بها هذا الفنان اللبناني من الرسم الطبيعي إلى تقنيات وأشكال راديكالية في الرسم والكولاج والنحت والتركيب، مستخدماً في ذلك وسائط ومواد مختلفة وصعبة في تنفيذ أطروحاته التي يبدو أنها وضعته في منطقة يتحول فيها الرسم والفن إلى صناعة وإنتاج وإلى نوع من الحِرفة. لم يخترع الفنان المقيم في بلجيكا هذه التقنيات طبعاً، لكنه استغرق فيها وصارت ممارسة مفضّلة وأسلوباً شخصياً بالنسبة إليه. لم يأتِ بوغوصيان إلى الفن من دراسة الرسم أصلاً، فقد درس الاقتصاد وعلم الاجتماع في بيروت، قبل أن يستقر في بروكسيل، ويُعرف بعمله في تصميم وصياغة المجوهرات. الفن ظل هواية مخفية، وظل هو فناناً منزوياً، بحسب وصفه لتجربته التي تبدو مدينةً للتجريب والبحث أكثر من كون صاحبها معنياً بإنجاز لوحات أو أعمال فنية عادية.
أعمال كأنها ابنة التجريب وحده، تشبه تلك التجارب الريادية في تاريخ الفن

نتأمل أعماله التي أُنجز أغلبها بالنار والدخان، وننتبه إلى انتقالاته المتعددة والمتسارعة بين تقنية وأخرى، ونستغرب أن الفنان ليس معروفاً على نطاق واسع. لقد سبق له أن عرض أول مرة في المركز نفسه قبل خمس سنوات، لكن ذلك لم يثبّت اسمه وتجربته التي ظلت تحت لافتة الفنان الزائر. والأرجح أن معرضه الحالي لن ينجح في ذلك، وإنْ بدا هذه المرة شاملاً لتجربته كلها تقريباً. ولعل السبب في ذلك أن هذا النوع من التجريب يظل محصوراً في حدود التجريب نفسه، كذلك لا يكترث بوغوصيان كثيراً بالانطباعات التي ستصنعها أعماله لدى المتلقي أو لدى الجمهور العريض، إذْ يبدو كأنه يرسم أو يشتغل لنفسه وإرضاءً لمزاجه ونظرته الذاتية إلى الخامات والمواد التي يعمل عليها أيضاً، حيث «البحث» هو الأهم على حساب النتيجة الجمالية والفنية. وهذا يعني أن أعماله غير معنية بالجانب التسويقي والتزييني بقدر عنايته بالإخلاص لما ينتج من البحث واستكشاف الأداءات الممكنة للمواد التي يستعملها، بينما التقنيات تشمل القطع واللصق والحرق والثَّقب والتطعيج وتعريض العمل أو اللوحة إلى حالة يصعب التكهن بنتيجتها.
لا تحمل أعمال بوغوصيان تلك الخلطة «السحرية» التي ينجح فيها الفنانون في جذب الأذواق العامة وفق تسويات أو تنازلات محددة. ولذلك، تبدو هذه الأعمال كأنها ابنة التجريب وحده، وهي تشبه تلك التجارب الريادية في تاريخ الفن التي طرح أصحابها وجهات نظر جديدة وصادمة وغير تقليدية في مقاربة الفن والرسم. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة تأثيرات فنية معينة في شغل بوغوصيان، وخصوصاً تلك التأثيرات القادمة من الفنان الفرنسي إيف كلين (1928 – 1962) الذي اشتُهر باللون الأزرق وتقنيات النار، والإيطالي ألبرتو بورّي (1915 – 1995) الذي اشتغل على تقنيات مختلفة كالحرق والتثقيب واللصق على سطوح خشنة وملتوية، وأيضاً الفرنسي برنار أوبرتين (1934 – 2015) الذي اشتغل على منتجات الحرق والتلحيم والدخان، بينما نلحظ تأثيرات تجريدية حاضرة بقوة في أغلب الأعمال المعروضة، سواء أكانت على شكل لوحات أو منحوتات برونز وخشب. التجريد هو هوية شبه شاملة في شغل بوغوصيان، فهو يحوّل المنحوتات إلى علاقة مقترحة بين الكتلة أو الكتل المتجاورة مع عوامل الطبيعة وإحداثيات المكان الذي يمكن أن تُعرض فيه، ويحول الحروق والثقوب في اللوحات إلى نوع من الجروح والندوب، ويشتغل على تعريض الكتب والمصنفات الورقية لتقنية الحرق والدخان. كذلك تبدو بعض التجريدات التي فيها تأثيرات من جاكسون بولوك مثل متاهة مدينية متخيلة. يمكننا أن نقرأ الجروح والشقوق والتصدعات والحروق كاستعارات ومجازات عن جروح وحروق واقعية. التاريخ اللبناني الممزق ليس بعيداً عن هذه التأويلات التي تبدو صالحة لهوية الفنان الأصلية، ولكنه لا يضع هذه التأويلات كترجمة وحيدة وحصرية لعمله الذي يُفضل أن يُرى كحصيلة للبحث والتجريب، وأن تُعامَل أعماله كتجريدات ومنتجات فنية معاصرة منجزة بحسب ممارسات فنية وحرفية تخلط بين الفن المفاهيمي وبين البحث، ولعل هذا ما دفع الفنان إلى حشد أعمال كثيرة في معرضه الذي سيُختتم بعد غد بمحاضرة ولقاء بعنوان «النار في الفن المعاصر»، بمشاركة الناقد الإيطالي برونو كورا، وميشال كازامونتي مديرة غاليري «TornaboniK»، وكاترين دافيد مساعدة مدير مركز «بومبيدو».

* «جان بوغوصيان: بين نارين»: حتى 10 كانون الثاني (يناير) ــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال) ـ للاستعلام: 01962000