لا يزال المايسترو سليم سحّاب (1941) أميناً على البدايات والنهايات في ما يخص تأصيل حضور الموسيقى والأغنية العربية لدى الأجيال كافّة. شغله في «فرقة بيروت للموسيقى العربية»، بترتهُ ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، ما اضطرهُ للمغادرة إلى القاهرة. بعد سنوات تولى فيها قيادة «الفرقة القومية للموسيقى العربية» في دار الأوبرا في القاهرة، عيِّن سحاب قبل أسابيع رئيساً لـ «أوبرا مصر» التابعة لـ «جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا».
كما اختارته الأمم المتحدة أخيراً سفيراً للنوايا الحسنة لدوره في مشروع «كورال أطفال الشوارع» الذي أطلقه العام الماضي. تجربة جديرة بالاقتداء تمثلت في ذهاب سحاب إلى الأولاد المشردين والمتسولين والباعة الصغار لانتشالهم من ظلمة الأرصفة والعوز والاستغلال الى خشبة دار الأوبرا ببدلات وربطات عنق وتسريحات نظيفة، مطلقين حناجر قوية تختزن ظلماً كافياً وتتوخى أن تجد مكانها اللائق تحت هذه الشمس العربية اللئيمة والمُسلطّة على الرؤوس الفتية. حناجر صادحة تؤّدي أصعب الأغنيات العربية، على هدى عصا المايسترو بتناغمات لا تضيع بين الجملة الرئيسية والتعريب عليها وتفريدها والتلوين في هارمونيات مختلفة.
لا يهدف عمل سحاب مع هؤلاء الفتية إلى اكتشاف مواهب فنية، بقدر ما يتّرجى هدفاً اجتماعياً هو محاولة إيجاد بعض الحلول لمشكلة تفاقم أطفال الشوارع. من بين 800 ولد، أمضى سحّاب ردحاً كافياً في الاستماع اليهم ليرسو على 70 منهم. اعتبر سحّاب أن بوسعهم الوقوف على المسرح، والغناء، والمضي في هذا الحل الإنساني والمُشرّف، والداعي فعلاً إلى الاقتداء به كلّ بحسب موقعه ومسؤولياته وتعدّد مهامه في المجتمع.

مشروعه «كورال أطفال الشوارع» تجربة جديرة بالاقتداء
من لم يشاهد إحدى حفلات هؤلاء الأطفال عبر اليوتيوب، لن يسعه تقدير ماهية الفرح والحماس الذي اعتراهم، ولا رؤية كمية “الرفرفة” البهيجة التي هيمنت على أجسادهم الصغيرة في محاولتهم استنشاق هواء انعتاق أكيد من حياة البؤس والأرصفة. فرح لم يختبروه سابقاً يجعلك تتغاضى عن الصوت لصالح الحالة الطيبة التي اعترتهم. قد لا تتوافر لكثيرين منهم فرص الانخراط في عالم الفن، سوى أن فكرة ستسكنهم لا ريب، هي هجر الشوارع والبحث عن خيارات طيبة تمليها حيواتهم وأحلامهم.
لا يريد المايسترو إذن إنتاج أسماء جديدة في عالم الفن من خلال هذه المغامرة المشرّفة بقدر ما يريد تخفيف الخصومة بين هؤلاء الأطفال ومجتمعهم كي يمضوا أقوياء في الراهن المستقوي على طفولتهم، وهم يتمسكون بحبل إنقاذهم وسط الطوفانات الكبرى في مصر والعالم العربي. ثمة تجربة عندنا مع «النادي الثقافي العربي» في بيروت تقترب من المفهوم عينه، حيث تقام التجارب المسرحية والغنائية لا لهدف فنّي محدّد، بل كي لا ينسى الأطفال حناجرهم ومواهبهم. وأحد أبرز العاملين على تجربة مسرح الأطفال في هذا المعنى هو كريم دكروب الذي يجول لبنان وعواصم العالم للغاية عينها وللبعد الإنساني قبل أي أمر فني. ثمة في هذا الضباب ما يمكننا التوّقف عنده إذن ورفع القبعة له، وفتح كوّة للضوء في ظلمة لو يسعنا إزاحتها عن الأطفال قبل أيّ شيء.