بستاني خمسيني اختاره الروائي الإيطالي أري دي لوكا (1950) بطلاً لروايته «ثلاثة جياد» (1998) التي انتقلت أخيراً إلى المكتبة العربية (منشورات الجمل - 2015 - ترجمة نزار آغري). لا يطلق دي لوكا على بطله اسماً. يجعله راوياً فقط، هو المدمن على القراءة، لكنّه يقرأ الكتب المستعملة، لأنه يريد أن يشعر بما مرّ على الكتاب من حيوات. يغرس شتوله في حديقته التي يعتني بها كما يعتني بذاكرته التي تضجّ بالأحداث، كأنّه يودّ القول إنّ ما نحن عليه اليوم ليس إلّا مجموع ما تحتفظ به الذاكرة.
لا يحتاج لقاؤه بليلى إلى مبررات دراميّة. هو ليس أكثر من مصادفة قد تحدث كلّ يوم في حياة تقوم على المصادفات. البستاني الخمسيني لن يكون بحاجة إلا إلى امرأة شابّة تضجّ بالأنوثة ليتمكن من استعادة تفاصيل حياته، ويشعر بالمعنى من جديد. هو الذي كان شيوعياً في ما مضى، الكلمة التي «باتت الآن مرميّة في مكبّ نفايات القرن الماضي».
لا يكتب صاحب «جبل الرب» رواية سياسيّة، ولا يخوض في التاريخ بما يجعل روايته روايةً تاريخيّة. إنّه يكتب سيرة الحياة، حياة أشخاص عاديين، فيحضر التاريخ والسياسة في خلفية المشهد كعاملين أساسيين يؤثران في حياة الشخوص. ولهذا ربّما لم تكن ليلى التي تمتهن بيع الجنس للرجال، صافية العرق. هي روسيّة واسكتلندية من جهة الأم، وصقليّة وليغورية من جهة الأب «أنت أميرة، تحملين الجغرافيا في دمك» يقول لها البستاني الإيطالي الذي اختار في مرحلة من حياته أن يسعى خلف حبّه، حين وقع في غرام الفتاة الأرجنتينية، واختار البقاء في الأرجنتين في زمن هاجر فيه الكثير من الإيطاليين إلى ذلك البلد البعيد، قبل أن تندلع الحرب، وتضع حداً لحيوات كثيرة، ومنها حياة حبيبته دفورا التي تعرّف إليها وهي تتسلّق الجبل.
بينما يسعى الأحياء لبلوغ القمم في حياتهم، تأتي الحروب لتجعل الأمان مطلبهم الوحيد، ما سيدفعه لخوض تجارب كثيرة في مرحلة بحثه عن الأمان، فيعرف البحارة، ويعرف الكثير من الغرباء الذين ما يلبث أن يكتشف كم يشبهونه.

يحضر التاريخ والسياسة في خلفية المشهد


لا يتكلّف دي لوكا في سرده الذي يأتي رشيقاً. يعتمد الجمل القصيرة المفعمة بالشعرية، بطريقة يتماهى فيها السرد مع النثر الشعري المنشغل بتفاصيل مهملة من الحياة.
يستحضر شخوصه من عوالم مختلفة، ناسجاً علاقاتها بالطريقة ذاتها التي ينسّق فيها البستاني شتوله في الحديقة، ما يمنح روايته خصائص كلاسيكيات الرواية الأوروبيّة، مع ميزة إضافية هي التكثيف والابتعاد عن الإسهاب. تبدو الـ127 صفحة مساحة شاسعة تتسع لاختلاط الجغرافيا، والحيوات الكثيرة التي تضجّ بها الحكاية من دون أن ينسى لحظة واحدة أنّ بطله البستانيّ، قارئ من طراز مختلف، يحتفي بالكتاب كمن يحتفي بكائن حي.
تحضر الحرب في «ثلاثة أجياد» بمستويات مختلفة من دون أن يخوض دي لوكا في تفاصيلها. غير أنّ خرابها يبدو واضحاً في ثنايا الكلمات «في وسع الحرب أن تكون جذابة. الديون، السرقات، القروض، العقود. تستطيع الحرب أن تحرق كل الوثائق. هي للبعض بمثابة غفران، وللبعض الآخر فرصة للانتقام. ثم تحترق البيوت مع الأولاد الذين بداخلها. ويخسر الجميع». يمضي دي لوكا في هذه الرواية، على غرار كتاباته الأخرى، بالمزج بين النضال الإنساني، والاضطهاد، والفقر، بما يشبه التأكيد على شبه كبير بين أرواح البشر مهما اختلفت الجغرافيا التي تهيم فيها «هناك كائنات خلقت لبعضها البعض من دون أن تلتقي أبداً. وهي تضطر لأن تحبّ أشخاصاً آخرين كي تتغلب على الغياب».
في هذه الرواية، يتابع دي لوكا انتصاره للمهمشين والفقراء، بما ينسجم مع سيرته الذاتية، هو اليساري المتطرف قديماً الذي أحيل على القضاء أخيراً على خلفيّة اعتراضه عام 2013 على بناء سكّة حديد بين مدينتي تورينو الإيطالية، وليون الفرنسية. يومها، دعا إلى تخريبها لما ستسبّبه هذه السكّة من خسائر وأضرار على البيئة في المناطق التي ستمرّ فيها، مؤكداً أنّ الهدف من إنشائها قرار سياسي اتخذته المصارف الهادفة لتحقيق أرباح من دون النظر في حياة وادٍ كامل سيتعرّض للخطر.
هذا ما يوضح شيئاً من الشبه مع بطل «ثلاثة جياد» الذي يقول لليلى: «هكذا يعيش العمال المياومون في هذا العالم يا ليلى. ينهضون قبل شروق الشمس ويرجعون إلى بيوتهم بعد أن تغيب الشمس. يمضون من الظلام إلى الظلام».
روايات دي لوكا مادّة أدبيّة غنيّة ودسمة، ولا تخرج «ثلاثة جياد» عن ذلك، حيث التكثيف هو المقدرة على قراءة الحياة بطريقة مختلفة، وحيث هي رواية يمكنها أن تحمل قارئها لا أن يحملها وتكون عبئاً عليه، بما يتفق مع رؤية البستانيّ للكتاب: «هذا ما يجب أن تفعله الكتب. أن تحمل هي الإنسان، لا أن تجعل الإنسان يحملها. أن تخفف عبء الأيام عن كاهله، لا أن تزيد إلى أعبائه ثقل صفحاتها». ما يؤكد بأن دي لوكا يكتب روايته بمهارة رجل يمكنه حلاقة ذقنه في العتمة.