كان «الشيخ» سليمان تقي الدين رجلاً جامعاً، مختلفاً عن المعتاد: الصحافي والأديب والمحامي والسياسي والمثقف؛ كان معجوناً بحبّ كبير للوطن، وهنا الوطن لا يهم أكان لبنانٌ أو كان عالماً عربياً متسعاً كبيراً. هكذا كان سليمان تقي الدين، يندر أن تجده جالساً بدون «عمل»، فالحياة بالنسبة إليه عملٌ قبل أي شيء، فإن جلس كتب، وإن حكى أجاد، وإن كتب ترك أثراً لا تمحوه السنون. الرجل الذي انطفأ أمس بعد صراع مع المرض، جاء من عائلةٍ عريقةٍ في الأدب والثقافة والسياسة، وكان جزءاً من ذلك الإرث وصانعاً مكملاً له.
ولد تقي الدين في بعقلين (قضاء الشوف) عام 1952. عرف الثقافة منذ نعومة أظافره، وخلق نوعاً من التماس الدائم معها فتبوأ لاحقاً منصب رئاسة إتحاد الكتاب اللبنانيين (حتى استقالته الأخيرة منه). مارس المحاماة بعدما درسها في الجامعة اللبنانية، وعمل بها كمحامٍ في الإستئناف، لكنه كاد أن يهجر المهنة لرصيدٍ سياسي يريده أن يكون «جامعاً». دخل إلى بوتقة السياسة اللبنانية يسارياً، فكان في حزب «طليعة لبنان الإشتراكي» القريب من حزب «البعث» العراقي محطته الأولى (مع رفيق دربه فواز طرابلسي) ليعود ويؤسس (مع فواز كذلك) «منظمة العمل الشيوعي»، ليعود ويعجب بكمال جنبلاط وحزبه التقدمي الإشتراكي. تلك التجربة لم تطل، لكنه حافظ في الوقت عينه على ذكاءٍ سياسي جعله لا يخاصم أحداً.
كانت جريدة «السفير» محط رحاله. كان قد التقى مالكها الناشر والصحافي طلال سلمان عام 1975 وكانت الجريدة لما تبلغ العام آنذاك. تناقشا في أمورٍ عدة، وأسرّ له سلمان وقتها بأنه «معجبٌ به وبنشاطاته». وقتها كان تقي الدين مولعاً بالسياسة أكثر من أي «أمرٍ» آخر، فانتهجها وعاشها، وكتب فيها وعنها فكانت «مطالعته» المهمة للغاية: «التطور التاريخي للمشكلة اللبنانية، مقدمات الحرب الأهلية» (الصادرة عن دار «ابن خلدون»، بيروت، 1977) متحدثاً فيها عن أسس المشكلة اللبنانية وكيف كانت الحرب الأهلية «آتيةً لا محالة». كاد يوماً أن يترك العمل في مهنته كمحامٍ استئنافي لغرقه في تفاصيل السياسة اليومية. تبدّل الوضع في العالم العربي والتغيرات التي ستحدث فيه لاحقاً واندلاع الحرب الأهلية ونهايتها، أعادت «الصحافي» سليمان تقي الدين، فعاد إلى كنف «السفير» يكتب مرتين في الأسبوع مفتتحاً الجريدة (كل ثلاثاء وسبت حتى وافته المنية)، ليخلق نوعاً من التماس المباشر مع القراء الذين اعتادهم واعتادوه.

الصحافي والأديب
والمحامي والمثقف كان معجوناً بحبّ كبير للوطن

تناول تقي الدين الكتابة، مرتكِزاً أساساً على «تفاصيل» حياته اليومية وتجاربه المعاشة، فتناول الحرب اللبنانية والأزمات التي كانت تعصف بلبنان والمنطقة. كتابه «العرب والمسألة السياسية» (دار الكاتب ـــ 1984) قارب جانباً مختلفاً من حياة العرب السياسية في تعاملهم مع قضايا المرحلة آنذاك؛ ليعود بعدها بعامٍ واحد ليطرق المشكلة اللبنانية من جذورها من خلال كتابه «المسألة الطائفية في لبنان، الجذور والتطور التاريخي» (ابن خلدون 1985). حاول تقي الدين بلغة الباحث والمحلل والمثقف وحتى المحامي أن يلج عميقاً داخل المشكلة، فيعرّيها وبالتالي يجد «حلاً» لجذرها الرئيس. كان الكتاب الأخير منعطفاً في حياته، ابتعد بعده عن الكتابة السياسية لأعوامٍ طويلة، مركزاً نشاطاته على الكتابة في مجال «القانون» والحقوق والمحاكم، فألف عدداً كبيراً من الكتب في القانون ومواضيع شتى مثل «استقلال المحاماة»، و»واقع وآفاق السلطة القضائية في لبنان»، والتحديات التي تواجه السلطة القضائية المستقلة فيه.
ذلك الإبتعاد عن «السياسة» كتابياً، لم يجعله يكرهها بالمقدار الذي جعله يتنبه إلى أن العالم «يتطور»ويأخذ شكلاً مختلفاً جديداً، فكان عنوان كتابه الذي أصدره عام 1992 بعنوان «تحولات المجتمع والسياسة، أفكار عن عالم جديد» (دار الحداثة). ولئن كانت السياسة كما الأدب والفكر والثقافة جزءاً لا يتجزأ من حياة الرجل، فإنه بالتأكيد لم ينس أن يترك بصمته الخاصة التي تختزن كثيراً من «صخبه وصمته، حزنه وغضبه» من خلال كتابه الأخير عن السياسة المحلية الذي نشره عام 2009 بعنوان «المشروع اللبناني الصعب» (دار الفارابي) معيداً إلى الأذهان كتابه الأول وإن بات «نضجه» الخاص أقرب إلى رؤيةٍ مختلفةٍ عن معتاد السياسة، إذ قال بأنّ «لبنان الذي نهرب منه إليه، وأنكرناه فصرنا أكثر تعلقاً به، هو مشروع ككل مشروع في التفكير السياسي، وهو معطى غير ناجز. إما أن يكون فكرة للمستقبل وإما أن يكون جثة من الماضي يحمل تواري أفكار عن عالم جديد». تبعه عام 2012 كتابه الرؤيوي «العرب في مخاض التغيير» (الفارابي) متناولاً ما سمي بالربيع العربي، باحثاً في أصل الأمور وحولها بلغة الناقد السياسي والقانوني، فأشار إلى أن «إحدى إشكالات ومشكلات الثورات العربية أنها لم تستطع أن تضع فكرة حقوق المواطن في إطار حقوق الوطن».
كان همه لبنانياً، عروبياً، ثقافياً بامتياز، كان يعرف «كيف يقول، ولماذا»، كان يجيد تلك الحرفة أكثر من «حرفة» السياسة بحد ذاتها. لذلك كثرت محاضراته ودراساته. حينما شاء الوقت أن يكتب «عن نفسه» (حين كرّمته «الحركة الثقافية إنطلياس» ضمن «مهرجان الكتاب اللبناني» العام الماضي)، قال بأنّ «رصيده الآن جسدٌ لجواد أزرق، جموح في نهاية الشوط، وروحٌ تتوقد أمام إنهيار الجدران». حتى لحظاته الأخيرة (اكتشف إصابته بالسرطان منذ عام)، كان مقاوماً شرساً وعنيفاً، ومصراً على «تحطيم» اسطورة ذلك المرض، فقاوم من خلال كتاباته، لأنه كان يعتبر «استمراره في الكتابة مواجهة لعلها الأشرس من بين المواجهات التي خاضها ضد الإنحراف الفكري والتحجر الحزبي وسيادة المناخ الطائفي أو المذهبي» كما قال عنه طلال سلمان في مقاله «عن النبيل سليمان تقي الدين» قبل أيام.