عدنية شبلي *
مقالة «الأخبار» تطالب درويش بعدم الذهاب إلى حيفا. في تلك الساعة المتأخرة من الليل، أوافق إلى حد مـا... صبـاح اليوم الـتـالي أصـحـو عـلـى إحسـاس عميـق بالاحـتقـار الذاتي. أتجه إلى الكمبيوتر وأبعث برسالة إلكترونية إلى بيار...

هذه الأيام حين أفكر في ما يجري في فلسطين، أضع الطحين بدل السكر في قهوتي. وحين أحاول التخلص من قهوتي ووضع فنجاني في الجلاية، أضعه في الثلاجة. ويشتد حنقي على نفسي وأفتح باب الجلاية، أجل باب الجلاية، وأرمي بهذا الفنجان القذر بالقهوة والطحين، فيرتطم الفنجان بأحد الكؤوس وينكسر طرفه.
لذا أتردد كثيراً، كثيراً، قبل أن أكتب حول ما يجري في فلسطين، فربما تكون كلماتي غير صائبة، منها ما يأتي في غير موضعه. مبعثرة وقليلة. وحين تنتابني بعضها فجأة، حين أحاول الإمساك بها فوق الورقة... تفر مني ثانية، كالعصافير التي تطير أمامك، لحظة تقترب منها إلى درجة تكاد تعتقد بأنك ستمسكها، تهرب منك إلى أبعد ما يمكن.
لكنني اليوم، في هذا الصباح أستسلم أخيراً لتلعثمي، ولعدم قدرتي على إيجاد الكلمات الصائبة. سأكتب، وقد يكون كل ما أكتب نقيض ما أردت أن أكتب. إلا أنه إن كانت هذه الكلمات المتلعثمة هي كل ما أملك هذه الأيام، فسأكتبها، بكل ما تحمل من اضطراب وضعف وهزال وحرج.
منذ أيام عدة وأنا أتحرى الأخبار، من وعن فلسطين. أصحو من نومي كل ربع ساعة، أفكر في ما يجري في فلسطين. ألم عميق كالذي يصحو عليه العشاق المهجورون حين يستيقظون مرة تلو الأخرى في الليل، يفكرون بمن كفّ عن عشقهم.
ليلة الجمعة، السادس من تموز (يوليو)، أقرأ تعليقاً قصيراً في الصفحة الثقافية لجريدة «الأخبار»، كتبه الصديق بيار أبي صعب. المقال حول زيارة محمود درويش إلى حيفا، حيث يحيي أمسية شعرية، للمرة الأولى منذ نفيه من تلك المدينة. كنت قد قرأت عن تلك الزيارة قبل أيام في مكان آخر، وأذكر بأن تعليقي على الخبر وقتها كان: «محمود درويش لم يعد إلى حيفا منذ أن نفي منها!؟».
مقالة ليلة الجمعة في «الأخبار» تدعو درويش إلى عدم العودة إلى حيفا. في تلك الساعة المتأخرة من تلك الليلة، أوافق المقال إلى حد ما. هذه الأيام لا يهمني إلا غزة، فلتذهب حيفا إلى الجحيم! غزة الكلمة الوحيدة التي أردد ليل نهار، أهمّ باسمها في سرّي كمن أصيب بهوس. غزة بمليونها ونصف المليون المسجونين منذ أعوام، لا ينظر نحوهم أحد. غزة التي تتعلق هناك على حافة الخريطة، تثقلها ببؤسها وبفقرها وبازدحامها وبـ«حربها». حتى الأرصاد الجوية تريد أن تنسى حالة الطقس في غزة. ثم أخلد إلى النوم.
في اليوم التالي أصحو على إحساس عميق بالاحتقار الذاتي. استعيد انجراري ليلة أمس خلف ما يجرف فلسطين، ومن انشطار بين الفلسطينيين. وضع صار معه جل الاهتمام هو الإمساك بكبش فداء جديد، لتقديمه على مذبح آلهة الانشطار، لتتغذى وهي تنمو أكثر بينما نقبل نحن موتنا. وأي كبش فداء ثمين هذا الذي يتم تقديمه؟ رمز فلسطين الأدبي ليس أقل. أتذكر عندها قصة حكاها لنا معلم الدين في الصف الثالث، ليقنعنا بمدى تفاهة إيمان الناس في فترة الجاهلية... كان هؤلاء يصنعون آلهتهم من التمر، وحين يشتد بهم الجوع والفقر يأكلونها.
أتجه إلى كمبيوتري وأبعث برسالة إلكترونية إلى بيار. مقالته تبدأ بأن الـ«رولينغ ستونز» لن يأتوا للعرض في «إسرائيل»، بسبب جهود حملة المقاطعة الثقافية الفلسطينية على إسرائيل. وهكذا على محمود درويش ألا يذهب إلى حيفا.
فجأة إذاً كي يصبح محمود درويش الفلسطيني مؤازراً لفلسطين، عليه أن يتحول إلى إنكليزي ذي ضمير سياسي، عليه أن يتعامل مع فلسطين المحتلة في عام 1948، بلده، على أنها إسرائيل، عليه أن يعتبر فلسطينيي الداخل على أنهم إسرائيليون، أن يعلن أن حيفا هي أرض العدو! إذاً لا تعد إلى حيفا. أكتب باقتضاب لصديقي الذي يرد بعد ساعة، داعياً إياي للكتابة عن الموضوع، وعن غسان كنفاني الذي تصادف هذا الأسبوع ذكرى مرور خمسة وثلاثين عاماً على اغتياله. صحيح، الثامن من تموز، كم نسيت ذلك.
أقبل الدعوة وأحاول أن أشرع بالكتابة، لكن يعود يشلني إحساس مريع بالخجل... ليس الخجل لأنني أومأت برأسي ليلة أمس، موافقةً على حمل درويش إلى المذبح... بل لأنني أحاول أن أقوم بما من شأنه أن يغفر لي تلك الإيماءة الثملى، المنهكة والمريضة. أشد من خجلي من تلك الإيماءة هي محاولتي التظاهر بأنها تغتفر. أن أومئ معناه أنني مجرد واحدة من عامة الجمهور المرير، المصاب بمرض الانشطار هذه الأيام، أن أهب لنجدة درويش؟ ومن أنا لأفعل ذلك؟ أخجل بشدة.
أعود إلى صمتي، أهدس بالخمسة والثلاثين عاماً التي مضت وتحولت خلالها «عائد إلى حيفا» إلى «لا تعد إلى حيفا». قد يغفل المرء التغيير حين يكون تدريجياً وبطيئاً، لكن حين يكتمل تحول الشيء إلى نقيضه التام ذات ليلة، ترى ــــ أو ترين ــــ بوضوح ما أغفلت عن رؤيته طويلاً. لماذا كتب غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»؟ ولماذا نكتب الآن: «لا تعد إلى حيفا»؟
في «عائد إلى حيفا» بطل الرواية الفلسطيني الأصل، يتحول إلى إسرائيلي. غسان كنفاني يضع تصوره لكابوس، ربما كابوسه الذاتي، حيث يمكن للضحية، بتوفر شروط حياتية مغايرة، أن تتحول هي نفسها إلى القاتل! الرواية توجه سؤالاً وجودياً إلى الفلسطيني: ما معنى أن تكون فلسطينياً؟ وربما بشكل غير مباشر توجه سؤالاً أخلاقياً حول مسؤولية الفرد تجاه الألم الإنساني، وإمكان الإحساس به بغض النظر عن سؤال الانتماء القومي.
الآن في عام 2007، يُكتَب «لا تعد إلى حيفا»، حيث السؤال الوحيد المطلوب تأمله هو: «مع من أنت، معنا أم معهم؟».
السؤال ليس وجودياً، بل رياضي بسيط... ولك أن تضع (أن تضعي) ما شئت في أي من الخانتين: «معنا» أو «معهم»، لتحصل (لتحصلي) على النتيجة ذاتها: الخيانة. «فتح» أم «حماس»؟ «التجمع» أم «الجبهة»؟ غزة أم حيفا؟ السجين حتى الموت أم الميت؟ المنتخب مرضياً أم الشرعي المريض؟ تعبك أم تعب الآخرين؟ أنت مع مَن مِنهم؟
أعيد التفكير في هذا السؤال يومياً. شخصياً، لم أرغب يوماً بالفشل في الرد على أي سؤال. لكن فشلي في الرد على هذا السؤال بات همي الوحيد.
من دون تردد أو تلعثم أقول، وبهدوء: «أنا لست معنا»! لن أكون، ما دام هذا هو السؤال الوحيد المطروح أمامي. سألتزم الصمت، والحزن على ما يبدو.

* كاتبة فلسطينية مقيمة في لندن