القدس المحتلة ـــ نجوان درويش
تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء، وتشكُّل سؤال المقاومة الفلسطينية الذي تجاوز خطاب التفجع والبكاء وانتظار الإغاثة. فكنفاني هو أيضاً كاتب تجربته الشخصية التي تماهت مع التجربة الجمعية إلى درجة يصعب فصل الواحدة عن الأخرى. وهو يشكّل حالةً استثنائيةً في اقترابه المباشر من حرارة التجربة وكتابتها، من دون أن تحترق أجنحة الفنّ في كتابته. ولهذا بقي النموذج الكنفاني ـــ على بساطته ــــ خارج متناول المقلّدين، يصعب تكراره من دون السقوط في الخطابة.
الروائي والقاصّ الذي سجّل التجربة الفلسطينية بحرارة، وعن كثب، بين 1948 و1972، بقيت رواياته العلامة الأبرز في إنتاجه. عمرٌ «أنفقه» بين الكتابة والعمل السياسي، تمّ قصفه مبكراً قبل أن يبلغ الذروة الأدبيّة. إذ يصعب تخيّل ما كان سينجزه لو بقي حياً حتى اليوم مثلاً، وبلغ الحادية والسبعين، أي السنّ التي أتيحت لروائيين فلسطينيين كجبرا إبراهيم جبرا (1920ـــــ1994) وإميل حبيبي (1921ـــــ1996) ممن شاركوه في تقديم السردية الفلسطينية المعاصرة. شاركه جبرا في سردية التهجير والمنفى (منفى المثقف والمقترن بالحظ في حالة جبرا)، بينما اختصّ حبيبي أكثر بسردية البقاء في الوطن المحتل: تلك السردية الساخرة المريرة كما تجلّت في «المتشائل». ويمكننا اليوم أن ننظر إلى علاقة التناص، أو بمقاربة أبسط التحاور، بين عنوان أشهر روايات كنفاني «عائد إلى حيفا»، والعبارة التي طلب حبيبي أن تنقش على شاهدة قبره: «باق في حيفا». كأننا بـ«المتشائل» يرد هنا على زميله، ويذكّر معاصريه بأنه، خلافاً للآخرين، بقي في فلسطين التاريخيّة التي تغيّرت هويتها، وعاش التجربة السياسية الصاخبة، والملتبسة التي نعرف. وإذا نظرنا جيداً، يمكننا أن نلاحظ منطقة مشتركة بين كاتبين اعتدنا أن نراهما عالمين منفصلين: كنفاني صاحب سؤال المقاومة الذي كتب خلال مرحلة الصعود القومي وتشكُّل سؤال المقاومة، وحبيبي مؤرّخ الهزيمة والعزلة القومية والبقاء في الوطن المحتل... هما وجهان للحكاية نفسها. وحين تناول كنفاني مسألة التباس الهوية من خلال شخصية الطفل الذي نسيه أهله عند النزوح من فلسطين عام 1948، فربّته عائلة إسرائيلية وأصبح ـــ من دون أن يعي هويته ـــ جندياً في جيش الاحتلال يحسب نفسه إسرائيلياً! وهي رؤية ربما لم يستسغها كثيراً الرأي العام الفلسطيني والعربي من كنفاني يومها، لكنّها اليوم باتت رؤية لها نصيب من الواقع. ولو تساءلنا عن تأثيرات كنفاني اليوم على كتّاب السرد الفلسطينيين، وخصوصاً الداخل الفلسطيني، لوجدناها أقل بكثير من تأثيرات إميل حبيبي. إذ تبدو تأثيرات هذا الأخير واضحة في الجيل الجديد عبر تلك اللغة الساخرة والقدرة على التعري، وعدم إنكار الهزيمة، بل الجرأة في إعلانها واستمداد القوة من ذلك. فوعي الهزيمة هنا هو شرط تجاوزها، وقوة المهزوم تكمن في صدقه مع نفسه، ودفاعه عن ذاكرته.
وفي حين أنّ كتابة حبيبي أكثر تأثيراً من أعمال كنفاني في الجيل الجديد من الروائيين الفلسطينيين، إلا أنّ تأثير كنفاني كرمز يتجاوز بكثير تأثير حبيبي، ليس فقط بسبب منزلته الأيقونية كشهيد وفارس كلمة، بل لأنّ كنفاني هو شخصية مضاءة بفترة الصعود القومي وسؤال المقاومة. وعليه، فهو ملهمٌ في شخصيته ومواقفه وتقدّميته ونقديته وحداثة رؤيته إلى العالم، وفي القيم التي جسّدتها شخصيته. بينما كانت شخصية إميل حبيبي «ضحية» لفترة الهزيمة، ولكونه ينتمي إلى قسم من الشعب الفلسطيني وجد نفسه أقلّية في أرضه، معزولاً عن بقية شعبه وأمته العربية، فُرض عليه أن «يكون» إسرائيلياً بين ليلة وضحاها، وبالتالي تجرّع الهزيمة مزدوجةً، فتجلّت مقاومته لها تراجيديا يومية سجّلها حبيبي في أعماله الأدبيّة. أضف إلى ذلك أنّ مواقف حبيبي السياسية لم تنل القبول والإعجاب الذي حازته أعماله الأدبية، إذ عانى سوء فهم، وفُسرت بعض مواقفه عكس ما كان يشتهي أو يضمر.
أخيراً، يبرز دائماً سؤال القيمة الأدبية وتغيّر السياق أو تحوّلاته على قراءة غسان كنفاني، فلسطينياً على الأخص. إذ يُفترض دوماً أنّ السياق تغيّر، وأنّ أدب كنفاني هو أدب سياق. وهي كلها افتراضات لا تبدو دقيقة بشكل كاف لطرحها بهذه الطريقة. (رغم الإقرار بأن «الالتزام» الأدبي بمفهومه الخمسيني والستيني يعاني جملة مركّبات ليست في صالح الكتابة كفنّ). وفي حالة كنفاني يتصاعد هذا النقاش، لكون قراءة كنفاني عانت دوماً من الأدلجة والتنميط. وفي فلسطين، كانت قراءته جزءاً من مقرّرات الجبهة الشعبية على منتسبيها. كما أنّ كنفاني كان أحد أهم منظري «أدب المقاومة» و«شعر المقاومة». ولعله كان أحد نحاتي هذا المصطلح ومروّجيه عربياً. هذا المصطلح الذي تحوّل قالباً لاحقاً، وصار ضرورياً كسره لتحرير الكتابة وإعطاء فعالية أكبر لفكرة المقاومة،.
واليوم، لم تنته مرحلة اللجوء بعد، بل إنّ تراجيديتها تأخذ أبعاداً سريالية حين «يلجأ» مثلاً لاجئو مخيم «نهر البارد» في الشمال اللبناني إلى مخيم لبناني آخر، وتعلو المطالب بحقّ «عودتهم» إلى مخيّمهم! الحالة الفلسطينية التي صوّرها كنفاني عقب النكبة ماثلة اليوم وتكاد تتطابق مشاهد من رواياته مع صور الفلسطينيين بعد 60 عاماً على اللجوء الأول... تمر كشريط سريع في مناطق مختلفة من الجغرافيا العربية خصوصاً. في كل مطار، نتذكر «رجال في الشمس»، وعند كل نقطة حدود عربية، هناك شاحنة وخزان وسائق فقد رجولته اسمه «أبو الخيزران» لا ينفك يتغنى بفحولته؛ بينما نحن في «الخزان» (أي «ما تبقى لنا» من فلسطين)، نقرأ غسان ونفكر بالكاتب الشاب الذي توقف عن الكتابة في الـ 36... نتخيّل يده تطير لحظة التفجير. يده التي وجدوها تلبس الساعة المتوقفة عند الساعة 11، على سطح إحدى بنايات بيروت!