نهلة مطر *للجماهير صورة تهيم بها شغفاً لمعبودها! يقع الفنان أسيراً لها وقد تُصبح دوراً يؤديه إلى جانب فنه. وهكذا عندما تغنى «العندليب الأسمر» بكلمات «في يوم في شهر في سنة»، لم يكن البطل شخصيته في الفيلم، بل كان عبد الحليم نفسه. مِن ألمه، صنع حبلاً ربطه بجماهير غفيره هامت وراء أخباره لتصبح لكل أغنية دلالة ترتبط بحياته ومساحته الخاصة.

وعلى الجانب الآخر، يتطرف آخرون ليصفوا صوته بالضعيف غير القادر على التطريب وأنه فقط صوت لمَّاح. تعددت النظريات وتنوعت الآراء الشائعة التي تفرق بين المُطرب والمغني والمؤدي وما إلى ذلك من جدل لن يفيد في تفهم ذلك الرباط الوثيق بين العندليب وعشاقه في كل مكان. ما يهم المستمع بالأغنية هو ذلك الإحساس بالهشاشة، والتمكن من توصيل إنسانية التعبير من خلال وجه يتسم في أغلب الأوقات بتعبيرات الألم، ويلمع أحياناً بالذكاء وتندفع الحيوية من عينيه. الهشاشة في رأي كثير من نقاد علوم الأداء الفني هي أكبر رابط بين الجمهور والفنان، ومتى تعالى الفنان على هذا الإحساس، يفقد توصليته الدافئة مع مستمعيه. الهشاشة الموسيقية عند عبد الحليم حافظ، ابن الشرقية، والدارس للموسيقى مثل أقرانه الذكور آنذاك في معهد الموسيقى المسرحية بعد تحولهم عن الدراسة التقليدية في معهد الموسيقى العربية، عازف الآلة الخنفاء التي تحتاج إلى سيطرة ونفس كبير جداً: آلة الأوبوا، الهشاشة هي إخفاء المهارة أو ما سأسميه من الآن التمكن الخفي. مع أول أغنية له للجماهير العريضة، جماهير السينما التي لحنها له صديق الدراسة ثم زميل المشوار الفني الملحن الكبير كمال الطويل: «على قدّ الشوق»، نلحظ اللحن الرقيق والدقيق جداً. يمتلئ ذلك الخط اللحني بتعرجات كثيرة يُطلق عليها الموسيقيون مصطلح العُرب. أداء العندليب جاء كآلة كمنجة في تمكنه في تلك السحبات والتموجات التي لا يمكن أن يؤديها صوت جهوري، بل صوت خفيف متمكن جداً لتأتي متماسكة متناغمة حيث يلحظها القلب وتُنعشه. ولا يكتفي بإتقان هذه التموجات الخفية، بل يُظهر بعضها مع تزايد انفعال الكلمات في «دمعي شهودي جرح خدودي في ليل سهادي». وعندما تنظر إلى وجه عبد الحليم أثناء هذا اللحن الدقيق، لا تلحظ عليه أي شيء غير صورة الألم التي ارتسمت عليه وارتبطت بمعاناته. وما أغنية «كامل الأوصاف» إلا مثالاً آخر على التطريب الذي يُحدثُه العندليب في قلب سامعه. وهي من الأغنيات الشهيرة من تلحين العبقري محمد الموجي الذي تميزت ألحانه بعبقرية السرد الدرامي أو ما نُطلق عليه «الحكيّ».
مرت 38 عاماً على رحيل العندليب، فهل رحل الحب عنا أيضاً، وهل نجد صوتاً آخر يجوز أن تُعبّر عنه الحكمة الإنكليزية: «الماء المستقر متحرك في الأعماق». لقد فارقتنا «أحضان الحبايب» و»مشينا على الأشواك». يسترق قلبنا الإنصات إلى نغمات عبقرية للموجي وكلمات معبرة من الخال وأداء خالد الذكر: العندليب عبد الحليم حافظ. رميت نفسك في حضن.... سقاك الحضن حزن...

* مؤلفة مصرية ومديرة سابقة لـ «متحف أم كلثوم»