عبد الغني طليس
ليس كلّ من ينتقد المغني يوري مرقدي، تابعاً لهادي شرارة أو مدافعاً عنه! انتهت الى غير رجعة المرحلة التي كان يوري يعتقد فيها أن مجرد انتقاده، في أي عمل فني يقدّمه، هو خطوة تساعد شرارة في تثبيت وجهة نظر تفيد بأن ابتعاده عن يوري... أنهاه. ذلك أن نهاية أو بداية أي فنان، لا يمكن أن تمرّ (فقط!) من خلال فنان آخر، تعاون معه في مرحلة معينة، ثم نشب خلاف بينهما، وفراق. وعلى رغم أن الاثنين تبادلا اتهامات، «لا تركب على قوس قزح»، كما يقول المثل العامي اللبناني، فقال كلّ منهما إنه «صنع» الآخر ثم أنهاه بمجرّد انتهاء العمل معه... فإن السنوات القليلة الماضية، «كشفت» أن كلاً منهما قادر على الاستمرار ناجحاً من دون الآخر، وأحياناً فاشلاً إذا «لزم» الأمر!
لكن الصعود الناريّ المتوهج الذي رافق أصداء أغنية «عربي أنا»، إن في الكلمات أو اللحن أو التوزيع الموسيقي أو الأداء، جعل يوري مرقدي نجماً... من دون أي مقدمات: أغنية تبدأ في صناعة نجم غنائي. نقول تبدأ لأنها كانت بداية قوية، في حين أن صناعة النجم تحتاج إلى وقت أطول وأعمال فنية أكبر وأكثر عدداً. لذا لم نقل إن الأغنية صنعت يوري، فطبيعة «عربي أنا»، نصّاً وتلحيناً وتوزيعاً وأداءً وحتى فيديو كليب، كانت «جديدة» على الأذن والعين معاً: كلامٌ بالفصحى أقرب إلى أن يكون بلا ضوابط لغوية، ولحنٌ يسير على غير الطرق التي اعتادت الألحان المألوفة السير فيها، وتوزيع موسيقي يستندُ الى إيقاعية غربية على شرقية، وأداء غنائي غربي على شرقي، ذو تقطيع غريب، وصورة فيديو كليب سوريالية الى حد ما. كل ذلك صنع «عالماً» خاصاً بالأغنية وبيوري مرقدي، كاتبها وملحنها ومغنيها، وبهادي شرارة موزعها الموسيقي «المجنون»، ما دفع بهما إلى مصادرة نجاحها، كلّ إلى نفسه من دون وجه حق. فالأغنية كانت كلاً متكاملاً، و«احتكار» النجاح فيها، ليس سوى مبالغة لا تجوز.
تستحقّ «عربي أنا» هذا القدر من التركيز عليها، في تجربة يوري مرقدي، لأنها قدّمته إلى الجمهور العريض وجعلته شهيراً، ثم لأنها حاصرته من جميع الجهات (أو حاصر نفسه بها)، فراح يكررها في أشكال مختلفة، ثم يكررها. حتى دخل نادي المغنين الذين أتت بهم إلى الشهرة أغنية معينة، فاعتقدوا أنهم إذا نسخوها أو استنسخوها، إنما يزيدون في تعميق شهرتهم، فأعادوها واستزادوا لتنقلب عبئاً خطراً عليهم. وبمثل ما كانت سبباً في انتشارهم، تحوّلت أو حوّلوها من حيث لا يدرون إلى سبب في انحسارهم!
إن مراجعة أغلب أغاني يوري مرقدي، تؤدي إلى واقع بيّن هو أن صاحب الأغاني، مأزوم فنياً بأغنية واحدة، يريد أن تكون هي نفسها أغاني عدة، وتنجح في استقطاب الاهتمام نفسه! راح يوري يكذب على نفسه بأغان يعرف هو قبل غيره، أنها ملحقات. وملحقات تتماهى مع الأصل، ولا تصل إليه. والأصعب أن يوري اعتقد أيضاً في ذلك الوقت، أنه الملحن الوحيد الذي يفهم صوته ويعرف أبعاده، فنأى بنفسه عن جميع الملحنين، محتكراً حنجرته، ومدخلاً إياها في روتين أدائي قاتل. حقاً كان قاتلاً. وخلال سنوات قليلة، تراجع اسم يوري من موقع الى موقع، ولم تفد السينما المصرية في انتشاله من حيث ركن صوته ونفسه، في لحظة سوء تقدير، بل سوء تفكير.
ولكي يستعيد مرقدي شيئاً من موقعه، فلن يكون ذلك بالسينما ولا بالتمثيل التلفزيوني، بل بالغناء، وتحديداً بغناء آخر يحمل ألحاناً أخرى وأسلوب أداء آخر. لا نطلب هنا أن يتنكّر يوري لأسلوبه الأدائي الذي عرف به بقدر ما نطلب إليه السعي إلى تجديد خلايا صوته من خلال لحن مختلف شكلاً ومضموناً، لا العودة (كما عاد أخيراً) بأغنية يمكن اعتبارها أيضاً وأيضاً، وبسهولة، نتيجة «عقدة» فنية اسمها «عربي أنا»، تكاد تكون مستعصية بل مدمّرة!