محمود الورداني *
سيرة خيري شلبي مذهلة بكل المقاييس! بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، التحق بمعهد المعلمين في مدينة دمنهور التي تبعد عن قريته عشرات الكليومترات. وكي يتدبّر مصاريف تعليمه، كان عامل تراحيل في حقول «الوسيّة» (الأراضي الزراعية الشاسعة). تلك هي محطته الأولى، نقع على آثارها في روايات مثل «السنيورة» و«الأوباش» و«الوتد»... ثم سافر إلى بلاد بعيدة ليعمل في حقول تابعة لمحمد على باشا، وكان هو النفر الوحيد الذى يحمل في «زوادته» أقلاماً وكتباً. وكان هذا معناه أيضاً أن يحفظ مواويل وحكايات تعود إلى قرون طويلة من السخرة والمقاومة، وأن يتعلم من رفاقه في ليالي السهر أسرار الأرض والحب والقهر.
عندما انتقل للدراسة في معهد المعلمين، أصبح عاراً عليه أن يستمر كعامل تراحيل، فاتجه إلى مهن مختلفة : الخياطة والنجارة (حتى الآن يحوك قمصانه بنفسه). بل حتى وقت قريب، اضطر في إحدى أزماته المالية إلى التجوال في أحد الأحياء الشعبية باحثاً عن «ترزي عربي»، وعمل ذات عام، طوال شهر رمضان، خياطاً بالقطعة!
ولأنه لم يكن أمامه إلا أن ينفق على نفسه، انتهى به الأمر إلى الإسكندرية، قبل أن ينهي دراسته للحصول على الثانوية العامة... ثم الالتحاق بالجامعة كما كان يحلم. إلّا أنّه ضاع في المدينة المتوحشة. هكذا، عمل بائعاً جوالاً ليكسب خمسة قروش في اليوم. أما دخوله القاهرة، فكان من أبوابها الخلفية. ظل سنوات مشرداً. تعلم كيف يغسل قميصه في دورات مياه السكك الحديد، في محطة مصر. كما تعلم أن ينام جالساً على أحد المقاعد في مقهى، مفتوح العينين حتى لا يطرده النادل! وهو يروي لنا بعض تلك التجارب في «موال البيات والنوم» التي اعتبرها واحدةً من فرائد عقد خيري شلبي، بل من فرائد عقد الرواية العربية. ثم عمل في عدد من المهن، ممثلاً في فرق التلفزيون المسرحية، وعازفاً للرق، فكاتباً للتمثيليات، فـ... محرراً بالقطعة.
حتى سنوات قليلة، كان يمضي أيامه في مقاهي الأحياء الشعبية. حتى استقر في منطقة جامع قايتباي شرق القاهرة، وهي منطقة مقابر، تحولت إلى هامش من هوامش المدينة، بعدما اقتحم الأحياء المحيطة كل الذين لا يجدون مكاناً يسكنونه. قضى شلبي في هذه المنطقة تحديداً بين المقابر، عشر سنوات متخذاً من مناضد المقاهي فضاءً للقراءة، وكتب خلالها أهم أعماله وأكثرها بقاءً.
سيظل شلبي من أهم الذين كتبوا عن الهامش. قد يكون بعض أعماله مصاباً بالترهّل أحياناً، إلا أنه صاحب عالم عريض، مترامي يمتدّ على أكثر من 50 كتاباً. كل سنة وأنت طيب يا خيري!

* قاص مصري