حبيب يونس * مي مر (1929) التي قهرها المرض فجر أمس، بعدما عاندَتْه سنوات، رحلت بصمت. صمت يشبه آخاً خجولة كانت تطلقها، بين نوبة ألم، وأخرى ـ مذ استعمرها «ذاك المرض» ـ مخافة أن تقلق أحداً... وحده فريدي، لو كان، كما دوماً، قربها، لاتَّكأت على رفقة عمرهما، وأسرَّت له بالوجع جميعه، مثلما ألقى أحدهما همه في صدر الآخر، حين فقدا بكرهما كمال، في حادث مفجع، في الجزائر، مطلع الثمانينيات.
لكن، وربما لأنها أحبت أن تفاجئ فريدي بقصيدة شوقها إليه، أبقت صرخاتها خافتة حتى لا تزعج راحته الأبدية، وهي في طريقها إليه.
مي مر... أكثر من اسم هي، وأكثف من حضور، وأعمق من قيمة. تنسَّكت، مذ انتمت إلى رهبنة الحبر، وحتى النَّفَس الأخير، تخدم ثالوث: الله ولبنان وإنسان لبنان.
«المسيح عاش أيضاً في لبنان»... كان آخر كتاب صدر لها، منذ أكثر من عامين، ولم يرَ النُّور إلا بعدما أغمض أحد مؤلِّفيه عينيه إلى الأبد. شاءته مي مر تحيَّة لرفيق دربها ألفرد، وقد لخَّصاه معاً عن عمل ضخم من تأليفها، يقع في ألف صفحة، يروي استناداً إلى مراجع عدة أن المسيح لم يمرّ بلبنان وحسب، بل ومكث فيه مع تلاميذه، حتى إنه علَّم في مدرسة بيروت للحقوق.
وقبل أيام سلّمت ابنها أرز مختصراً عن كتاب «لبنان ـ فينيقيا أرض أيل»، وهو عبارة عن مئة مقالة بالعربية، بدأ ينشره، حلقات أسبوعية، موقع «النشرة» (elnashra.com) الإلكتروني الذي يديره. وكانت، في آخر أيامها، تضع اللمسات الأخيرة، في صومعتها المنزلية، في الأشرفية، على كتاب «قانا الجليل»، و«هي إحدى مدن لبنان المقدسة»، حيث اجترح المسيح أعجوبته الأولى، وسلمت نسخة منه إلى جامعة الروح القدس ـ الكسليك... والفضل الكبير لها، بعدما دلها الصحافي محمد باقر شري، إلى موقع العرس الجليلي، في قانا، عام 1968، فتجندت والراحل زوجها من أجل إثبات هذه الحقيقة.
«الست مي» التي يُحتفل لراحة نفسها ظهر اليوم في كنيسة «مار متر» (الأشرفية)، لم تشأ الرحيل قبل أن تطمئن إلى أنّ ما ترهبنت من أجله، قد اكتمل. أكثر من مئة مؤلف في مختلف المعارف والعلوم والآداب، بدأت بنشرها منذ 1968، وبينها نحو ثلاثين ديواناً شعريّاً باللبنانية والعربية والفرنسية، فضلاً عمّا نشرته، ولا سيما منه مسرحيتها الشعرية «إليسا».
مؤرخة، أديبة، أستاذة جامعية، صحافية، محاضرة، كاتبة... دائماً كانت المسكونة بلبنان؛ المهجوسة بتاريخه؛ الفخورة بكل صفحة وحدث فيه؛ المنقّبة عن أي لحظة مجد لمعت في هذا التاريخ؛ المتابعة بدقة كل ما يكتب أو يقال عنه، حتى إذا ما «خَرَّف» أحدهم، على ما كانت تصفه، تتَّصل وتُعلي الصوت مصوِّبَةً ومنبِّهة؛ الزارعة الأمل الكبير في النفوس الخائفة الحائرة، لحظة الخطر على لبنان داهم، ومتى لم يكن داهماً؟
عملت مع الشاعر سعيد عقل منذ نهاية الستينيات، وشكلا ثنائياً، فمدرسة فكرية، تقوم على مبدأ «القومية اللبنانية»، أو على ما سماها عقل «الأمَّوية اللبنانية»، ما دامت لفظة قوم تعني الرجال وحدهم، فيما الأمة تشمل الجنسين.
مدرسة وإن رأى فيها البعض مبالغة، ورفضها البعض الآخر منتقداً، وأيدها كثر، تبقى حاضرة في الوجدان اللبناني، الفكري والثقافي بخاصة، إذ إن الفكر والثقافة، بحسب مي مر، «يجب أن يكونا تاجاً ينحني له الساسة، لا أن يكونا مرميين في زاوية الإهمال». مدرسة تقول جهاراً بما تفكر، وبما تكتشف، وتبشر به، وتنشره. وما من مرة أقعدها نقد، أو أعاقها تجريح أو تهكّم. يكفي أن كثيرًا مما فاجأت به الناس، بداية، بخاصة في ما يتعلق بتاريخ لبنان وعطاءات شعبه للبشرية وإسهاماته الحضارية، راح يثبَّت ويصبح حقائق.
كانت أسماء «سنخوني أتن»، المؤرخ الأول ابن بيروت، وإيل إله الآلهة، وتور ـ هرمس الجبيلي، وفينيقيا، وإليسار، وقدموس، مثلاً تتردد على لسانها يوميّاً، أكثر مما كانت تنادي أولادها الخمسة. وأنى حلت، تكرز بلبنان، حتى إن أبحاثها أوصلتها إلى «الجزم» بأن جنة عدن ما هي إلا إهدن، وأن المسيح تجلى في لبنان، وأن العذراء مريم بنت القليلة، القرية الصُّوريَّة، حيث مقام والدها عمران، أو يواكيم.
كان منزلها في الأشرفية ملتقى، كل ثلاثاء، لمفكرين وأدباء وسياسيين. منه انطلقت جريدة «لبنان»، وأسست «أكاديميا الفكر اللبناني»، و«جائزة كمال مر»، وفيه حفظت آلاف الصفحات عن لبنان وتاريخه «عملاق التواريخ»، كما كان يحلو لابنة بتغرين أن تقول.
هامش شخصي... مذ بدأتُ بتقديم برنامج «نقطة فاصلة» على محطة «أو تي في»، كنت أتصل بـ«الست مي» أسبوعيّاً، لأعرف هل يسمح لها وضعها الصحي بأن تحل ضيفة عليه؟ كانت، على رغم سوء حالها، تتابع البرنامج أسبوعيّاً، وتتصل وتعلق وتبدي ملاحظات. وحين اتفقنا على الموعد، وحددنا وقت التصوير وعناوين الحلقة، عن علاقة المسيح بلبنان... دخلت المستشفى، إلى أن رحلت أمس.
وحين تعبّر عن موقف سياسي، كانت تُسَرُّ بإذاعته كاملاً، ضمن فقرة «قولنا والعمل» الصباحية، عبر إذاعة «صوت الغد»، وتتصل على الأثر شاكرة الصوت الذي أذاعه وأوصل الرسالة التي أرادتها كما ينبغي.
يوم غاب «عمو فريدي» وكنا كثراً إلى جانبها في صالون كنيسة مار متر نواسي ونعزي، نادتني لأقعد إلى جانبها. قالت لي: «ما راح فريدي، فيك تشوفو بعينيِّي».
من سيقول لي غداً: «ما راحت الست مي»... فحسب، ولي أن أجيبه أن صورتها في القلب والعين والذاكرة والتاريخ، لن تغيب، صفحة مشرقة في «عملاق التواريخ».
* شاعر وإعلامي لبناني