بعدما أنجز سابقاً مشروعه «الملهاة الفلسطينية»، يواصل الكاتب الفلسطيني ابراهيم نصر الله (1954) مشروعه الروائي «شرفات» الذي صدرت ضمنه روايته الجديدة «شرفة الفردوس» (الدار العربية للعلوم ناشرون) لتكون شرفته الخامسة بعد «شرفة الهذيان»، و«شرفة رجل الثلج»، و«شرفة العار»، و«شرفة الهاوية».في «شرفة الفردوس»، يتابع نصر الله بناءه السردي المتوائم مع ما بناه في الشرفات السابقة، حيث الحلم يختلط بالواقع بطريقة يصعب فيها الفصل بينهما. في روايته الجديدة، لم يجعل نصر الله الحلم امتداداً لواقع مؤلم، يستمرّ بتشريح تفاصيله الدقيقة، وإنّما جعله جزءاً حقيقياً منه. هكذا لا تنقطع الحياة بين المستويين، بل تتداخل إلى حدّ يجعل القارئ قابلاً بكلّ ما سيأتي مهما كان منافياً لمنطق الواقع، ولكن بأسلوب مختلف تماماً عمّا يسمّى بالواقعيّة السحرية. وكذلك يتابع نبش مفردات الواقع العربي التي أنجبت إنساناً مسحوقاً سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وحمّلته أدوات تعذيب ذاته لتجعل منه جلّاد نفسه في كثير من الأحيان.

ولئن حضر الحلم بهذه الصيغة في الرواية، إلا أنّه حضر متخففاً من اللغة الشعريّة التي تلازم عادة هذا النوع من السرد. ورغم أنّ نصر الله معروف كشاعر أيضاً (له قرابة 20 مجموعة) ولكن يبدو أنّه يتعمّد الفصل بين هذين الجنسين من الكتابة الإبداعيّة، ليأتي سرده الروائي معتمداً على لغة بسيطة بعيدة عن البلاغة. إلّا أنّ ذلك لا ينسحب على اللغة السينمائيّة التي حضرت في الرواية بقوّة، أكان من ناحية تقطيع العمل بطريقة أقرب للمشاهد السينمائية، أو من ناحية بناء المقاطع الروائية اعتماداً على لغة بصريّة، يبدو نصر الله خبيراً بها بحكم عمله كناقد سينمائي أيضاً. ابتداءً من العنوان «شرفة الفردوس»، يحيل الكاتب قارئه إلى توقّعات لا تلبث أن تتلاشى تدريجاً مع التقدّم في العمل، ليجد نفسه أمام شرفة مفتوحة على جحيم يبدو بلا نهاية. جحيم يمهد له نصر الله منذ اللحظات الأولى، حين يختار لبطلته اسم حياة، ويجعلها عاجزة عن تذكّر جذورها، «رحت أحاول ما استطعت تذكر أمر أهلي، إن كان لي أهل، فلم أصل إلى شيء. أما ما جعلني أرتبك فعلاً، فهو أنني لم أتذكر أي بيت سكنت قبل هذه الشقة، وازداد الأمر سوءاً حين لم أتذكر أين أمضيت طفولتي، ومن أي مدرسة وجامعة تخرجت، وكيف حدث وأن وجدت نفسي أعمل في مكتب شركة طيران، وأعرف أكثر من لغة». إذاً، حياة شخصيّة غير محددة الملامح، دفعتها المصادفة فقط لتقف أمام ذلك البناء وتطمح أن تسكن الطابق الأخير منه. لكن الأمور لن تسير كما تحب حياة، فسرعان ما سيطردها قاسم، مالك البناء، من شقتها الحلم لتسكن طابقاً سفلياً حين تبدأ قصّة حبها لأنس التي خلقتها المصادفة أيضاً. أمنيتها بأن يتقدّم ويتحدّث إليها أثناء وقوفه أمام مكتب الطيران الذي تعمل فيه، يتحقق مباشرة، بحضور صديقتها دنيا التي ستقول لها لاحقاً: «أنس ظهر فجأة، توقف أمام واجهة مكتبنا، وفي الأصل كان عليه أن يواصل مسيره. أي أن يبتعد، ويتحول إلى أي رجل عابر، مثل كل هؤلاء الذين حولك. هل تعرفين بأنه كان من المفترض ألا يراك». بهذه الطريقة ينسج نصر الله أحداث روايته عبر حبكة بوليسية تلعب فيها المصادفات دوراً رئيساً، قبل أن يكتشف القارئ أنّها لم تكن مصادفات محضة، وأنّ ثمّة من كان يرتبها. إنّه قاسم، رجل غامض، يدير كلّ شيء من دون أن يكون حاضراً، ما يودي بحياة إلى حافّة الهلوسة، خاصة حين تأخذ دنيا بالتماهي معها، شكلاً وروحاً، إلى حدّ تغدو معه المرأتان غير قادرتين على أن تميّز إحداهن نفسها عن الأخرى. تتحولان إلى كائنين منساقين خلف إرادة قاسم، الكاتب الممتهن لرسم أقدار شخوصه. هنا، يخوض نصر الله في معادلة شائكة تبحث في أحقيّة الكاتب في أن يسوق شخوصه إلى حيث يبتغي، لتبدو حياة شخصيّة متمرّدة على إرادة كاتبها في نهاية الأمر، حين تدرك ماهيتها. هذه الإشكالية التي طرحت في روايات عدة في ما مضى، يعيد نصر الله طرحها في خدمة مشروعه لمحاولة مقاربة تمرّد الإنسان العربي على واقعه. ورغم الحرفية العالية التي امتلكها نصر الله في بناء عمارته الروائية، إلّا أن ذلك لم يشفع لـ «شرفة الفردوس» من الوقوع في مطب الحبكة البوليسية، ومحاولة خلق التشويق عبر ذلك.
وهذا ما جعل العمل يفقد رونقه في جزئه الأخير حين غدت النهاية قريبة من ذهن المتلقي، رغم محاولته الحفاظ على مفاجأة النهاية التي جاءت باهتة. وزاد من ذلك الشعور اختياره أسماء شخوصه (حياة، دنيا، قاسم) بإحالات رمزية بدائية لم تمنح النص أيّ قيمة مضافة.