منذ «حدث ذات مرة في الأناضول» (2011)، لم يغادر نوري بيلج جيلان المعقل الجبلي الشهير. روحه بقيت تحوم في المكان، إثر الشريط المضلل المشطور إلى نصفين: ليلي (فيلم طريق) ونهاري (الصدمة). فوزه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في «كان»، يغزل على منوال عناوينه السابقة. مهندس الإلكترون الذي تحوّل إلى السينما في سنّ متأخّرة نسبياً، معتاد منصّات الاحتفاء في الكروازيت. هناك، نالت أفلامه مختلف جوائز المهرجان من الـ «فيبريسي» وأفضل إخراج وأفضل ممثل، ليتوّج جديده «سبات شتوي» (2014) بسعفة «مهرجان كان السينمائي» الأخير. هذا أطول شريط يفتك هذه الجائزة في التاريخ (196 دقيقة).
السينمائي التركي (1959) يتشبّث بالجغرافيا ذات الدلالات الإيديولوجيّة الصارخة. «ثنائية الأناضول» باقية على العادات في طرح الأسئلة الوجودية الكبيرة، والاستناد إلى مرجعيات أدبية متينة. تشيخوف مثل أعلى في رصد يوميات رتيبة، ورسم شخصيات هادئة تخفي قلقاً عاصفاً. بعده، يأتي كل من دوستويفسكي وتولستوي. الأدب الروسي مناسب للحال التركي، لكونه معبّراً عن الإنسان عموماً. هكذا يراه جيلان. لقد لجأ مراراً إلى زمان محدد، ومكان شاهد على سيرورة متقشفة سينمائياً. هو آتٍ من الفوتوغرافيا، ومنه بدأ الكوادر الأولى في الروائي القصير «الشرنقة» (1995). سينماتوغرافيا اللونين مسيطرة على اشتغالاته المبكرة. يرتاح لإدارة أفراد عائلته أمام الكاميرا أو العمل معهم على النص. والداه أمين وفاطمة وزوجته إيبرو حاضرون على امتداد الفيلموغرافيا. جيلان نفسه بطل «مناخات» (2006) مع زوجته وأهله. بتوظيف الكاميرات الصغيرة، يشيّد عمارات بديعة على ثنائيات متعددة. الريف (بلدته الأم، الأناضول) والمدينة (إسطنبول). الثلج كمعادل سايكولوجي شبه دائم، والنار كمتنفّس لمونولوغات العائلة أمام الوهج المتطاير («البلدة» (1997)، «سبات شتوي»...). الصمت التأملي، والحوار الأدبي المنغمس في الواقع. اللقطات البانورامية الطويلة، والتسلل الهادئ من وراء الأبطال للدخول إلى رؤوسهم. تُستكمل الوصفة بإضافة البطء والرتابة، وسكون بيرغمان، وحقول قمح تاركوفسكي إلى المقادير. مهلاً، لا يمكن نسيان العرّاب الأيقونة يلماز غوناي (1937 – 1984). «الأمل» (1970) و«الطريق» (1982 – أول سعفة لفيلم تركي بالاشتراك مع شريف غورين) أساس مانيفستو السينما التركية الجديدة. هكذا، يتفنّن نوري بيلج جيلان في نسج تيمات العائلة الآيلة للسقوط (زوج/ زوجة، أهل/ أبناء، أخ/ أخت).
توضيب المألوف والمعتاد يحيل على مستويات كبيرة. في «سبات شتوي»، تمثّل ثلاثية الزوجين والأخت رماداً حارقاً في محيط بارد. آيدن (هالوك بيلغينر) برجوازي أباً عن جد.
يولّف النور والظل،
وحميمية الداخل ووحشة الخارج، لصنع الكآبة والوجوم
لم يبقَ من ماضيه كممثل شكسبيري، سوى اسم «عطيل» على لافتة فندقه السياحي المنعزل. امتلاكه لكثير من بيوت القرية المجاورة، لا يعني عدم التفاعل الثقافي العام. ها هو يكتب مقالاً أسبوعياً في صحيفة محلية مغمورة. يحلم بإنجاز كتاب عن تاريخ المسرح التركي. يتفوّه بالكثير من العظات والمبادئ الأخلاقية، فيما ينأى بنفسه عن مشاكل القاع. يتحدّث بهدوء مع زوجته نهال (ميليسا سويزن) وأخته نجلة (ديميت أكباج)، ولكن، ليس كل شيء على ما يُرام. تحت الرتابة والكساء الثلجي، ثمّة نار قادرة على الاندلاع. الحجر الذي يقذفه طفل غاضب على سيارة آيدن، يفجّر الاستقرار الكبير. يقشّر الجلد، ويكسر الاصطناع كما زجاج النافذة. يعرّي الجميع ضمن تحوّلات بطيئة، تفسح المجال للتأمّل ومعاينة الأضرار.
في مشهد تلو الآخر، يظهر آيدن كوحش برجوازي بكل معنى الكلمة. لا يمانع التقوقع داخل مكتبه، فيما مساعده يهدّد غير القادرين على دفع الإيجار. علاقته بزوجته متحلّلة برغم الحب القديم (لنتذكّر «مناخات»). أخته قادرة على استفزازه وإيقافه أمام المرآة، عندما يحلو لها ذلك. حوارهما الرفيع في مشهد الـ 18 دقيقة لا يُنسى. يعيدنا إلى متعة مماثلة في «جوع» (2008) لستيف مكوين، وافتتاح «سفلة مجهولون» (2009) لكوينتن تارانتينو. الاثنتان ليستا أفضل حالاً. الأولى تخترع حياةً موازية عبر الأعمال الخيرية، فيما تندم الثانية على طلاق كان يمكن تفاديه ببعض التنازلات. نهال تفشل في إرضاء ذاتها، بعد صدمتها بكرامة المنتمين لطبقة أدنى. نفس استراتيجية زوجها الذي يتبرّع أحياناً لتخدير ضميره. نجلة تفضّل الانزواء في غرفتها. بالمحصلة، كل من «القرود الثلاثة» يعود إلى لعق جراحه في الجحور. هذا بيان شعري ساحر عن جدوى الفرد والكون، الشعور بالذنب والرضا، ازدواجية البرجوازية ومثقف البرج العاجي فعلياً. في اتكائه على تشيخوف والرفاق، يعيد جيلان هيبة الحوار بعد انتشار أقاويل نمطية عن عدائه للصورة (سيناريو مشترك مع زوجته إيبرو). يلعب مع جوخان ترياكي (رجله المفضّل في السينماتوغرافيا) على الثنائيات أيضاً. يولّف النور والظل، حميمية الداخل ووحشة الخارج، لصنع الكآبة والوجوم.
يبدو القصر الفاره سجناً أسطورياً وسط اللا مكان. في المشاهد الداخلية، يبدع نوري في ضبط الإيقاع ورسم الـ Mise en scène. فعلها سابقاً في «بعيد» (2002)، إلا أنّه يرتقي هنا إلى سماوات أبعد. لا لقطات طويلة أو مشاهد طريق كثيرة كما المعتاد. هذا دهاء المعلّم التركي في التغيير التدريجي وصنع الفارق.
في النهاية، هو من كبار المقرّين لبهاء السينما اليوم. قد يتمسّك بأسلوبيته أو يقرّر الانقلاب التام مستقبلاً. ترقّب الغموض جزء من السحر القادم.

* «سبات شتوي»: «متروبوليس أمبير صوفيل» (01/888763)