غيّب الموت أمس خلدون المالح (1938- 2016) في أحد مستشفيات لوس أنجلوس، بعد صراع مع المرض العضال. وكان الراحل واحداً من رواد العمل الإذاعي والتلفزيوني في سوريا، فقد ضمّه الأمير يحيى الشهابي إلى ملاك إذاعة دمشق في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، لتقديم فقرات إذاعية في أحد أجنحة معرض دمشق الدولي، قبل أن يدرس الإخراج التلفزيوني في روما، وكان أول من أعلن نبأ تأسيس التلفزيون العربي السوري من إذاعة القاهرة في العام 1960، لتنطلق واحدة من أقدم المحطات التلفزيونية العربية. هكذا أثّث هذا المخرج الرائد البيت الجديد بعشرات البرامج المنوعة، إلى أن شكّل مع الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي ثلاثياً استثنائياً في تحقيق سلسلة أعمال كوميدية حملت توقيعه، ستبقى إلى اليوم في طليعة الأعمال الكوميدية المحليّة، كما ستتجاوز الحدود في تصدير اللهجة السورية إلى العالم العربي.
أعمال مثل «مقالب غوار»، و«ملح وسكّر»، و«صح النوم» أمثلة ساطعة على ثراء المخزون الدرامي البيئي المحمول على رافعة الكوميديا عبر شخصيات حيّة لم يستطع أصحابها تجاوزها في أعمال أخرى. فشخصيات مثل «غوار الطوشة»، و«حسني البورظان»، و«أبو عنتر»، و«ياسينو»، و«فطوم حيص بيص» هي شخصيات عابرة للأجيال، كأن أعمال الأبيض والأسود هي الدمغة السورية الأصلية، وما تلاها مجرد تنويعات عليها، قبل أن تطيح رياح المحطات الخليجية أصالة وثراء الهوية المحليّة التي برع الراحل نهاد قلعي في رسم كركتراتها بمهارة لن تتكرّر. ليست موهبة خلدون المالح وحدها من أنقذت هذه الأعمال ووضعها في صدارة الأرشيف الحي للدراما المحليّة، إنما إطلاعه الواسع على الفنون الأخرى، ومغامرته المتجدّدة في اقتحام الدروب الوعرة، وهو ما قاده إلى تحويل بعض هذه الأعمال إلى السينما الملوّنة. كما سيتعاون مع دريد لحام في عمل مختلف هو «وين الغلط»، بالإضافة إلى مسلسل «وادي المسك» عن سيناريو كتبه محمد الماغوط، لكنه لن يلقى النجاح نفسه التي حازته الاعمال التي كتبها نهاد قلعي. أما آخر أعماله، فكان مسلسلاً بعنوان «الجمل» (1999)، وقد حصد الجائزة الأولى للدراما في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. في السنوات الأخيرة، عكف المخرج الراحل على الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وأقام معرضاً واحداً لأعماله. هكذا انفرطت سبحة الكبار، كأن الزمن يغلق قوساً على عالمٍ كامل. بعد رحيل نهاد قلعي، وناجي جبر، وياسين بقوش، ها هو خلدون المالح يلتحق برفاق الأمس، لكننا سنبقى نشاهد تلك الأعمال البديعة، كأننا نراها للمرّة الأولى.