النحت قليل في تجربة هوغيت كالان (1931). ومعرضها «برونز» الذي تحتضنه حالياً «غاليري جانين ربيز»، يدل بطريقة ما على «أقليّة» هذا الفن في تجربة الرسامة اللبنانية المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية. من هناك، وفي عمر الرابعة والثمانين، ترسل لنا منحوتات اشتغلتها عام 1984 في باريس من الطين، ولم تعرضها في ذلك الوقت. وها هي تُصَبُّ في نسخ محدودة من البرونز، وتُعرض في الفضاء الذي استقبل معرضها الفردي الأول في بيروت عام 1970، قبل أن تهاجر إلى فرنسا، وتستقر في أميركا. هناك في الخارج، اختلط الرسم أولاً مع التصميم والأشغال اليدوية.
وهناك أيضاً، ظلت الظلال والمكونات والألوان المشرقية حاضرة في أعمالها، سواء تلك التي اشتغلت فيها على تعبيرات تشخيصية مختزلة أو على تجريدات مؤلفة من مساحات لونية شاغرة وشاسعة. الرسم نفسه تطور إلى ممارسات حِرفيّة أحياناً عبر التصاميم في البداية، ثم عبر السَّجادات وقطع النسيج التي استُخدمت كمنتجات تجريدية تُستثمر فيها ذاكرتها اللبنانية وزخارف الأرابيسك. تلك المادة الشرقية اختلطت بالتقنية والطموحات، وتداخلت مع التجريدات الهندسية وشعرية خطوطها ومساحاتها الشاغرة، وصارت جزءاً من حساسية ومزاج شخصي جرى تقديره وتثمينه في معارضها التي جالت عواصم ومدناً عديدة في العالم.
إلى هذه الممارسات المتعددة، تنتمي المنحوتات الـ 11 التي نراها في المعرض، وننتبه أنها طالعة من روحيّة واحدة، ليس بسبب أنها منجزة في الفترة نفسها، بل لأنها متقاربة في الأسلوب والنظرة إلى الكتلة والفراغ الذي يُجاورها أو الذي تسمح الكتلة ذاتها بمروره في طياتها وانحناءاتها وشقوقها غير المسدودة.
المنحوتات ترجمة لاستعارة
أو فكرة أو حركة إنسانية
النظرة نفسها تنتمي إلى زمن إنجاز المنحوتات الأول في ثمانينيات القرن الماضي، ولقائها حينذاك بالنحات الروماني جورج أبوستو في باريس، ما يجعلنا نقول إن المنحوتات ترسل انطباعات جديدة ولكن بمفعول رجعي، حيث ينبغي أن نراها ابنة زمنها وابنة النحت التقليدي إلى حد ما، حيث الكتلة هي الأساس والمبدأ، وحيث المزاج البشري له الغَلبَة والحضور الأكبر.
المنحوتات هي غالباً ترجمة لاستعارة أو فكرة أو حركة انسانية ما. تلفتنا الاختصارات الموهوبة للحالات البشرية في المنحوتات التي تمّ ترقيق سطوحها الخارجية، حيث الاكتفاء بالملمس البدائي والانطباع الأولي الذي يمنحه البرونز للشكل والحالة. لا ثرثرة مجانية في هذه الأشكال والحالات. الانضباط الأسلوبي ممزوج برغبة الفنانة في ترك أشكالها ومجسماتها في نوع من السَّكينة والعزلة والصمت. اللون الكامد والمكتوم للبروز يعزز هذه السكينة، ويحصر مزاج المنحوتة في أحشائها غير المرئية. ما يصلنا هو تعبير مكثف عن عناقٍ بين شخصين، أو توحّد لشخص وحيد، أو في جسدين متصلين في حركتين متناظرتين، حيث الانحناءات والخطوط الخارجية تسمح للمشاهد بالتقاط سريع لمزاج المنحوتات التي اختارت الغاليري أن تعرضها وفق سينوغرافيا مبسّطة، فوضِعت المنحوتات من دون ترتيب على ستاندات خشبية مثبتة أفقياً في وسط الصالة، بينما عُلقت على الحائط سلسلة ألواح خشبية مستطيلة بأضلاع نحيلة ومزخرفة، وعلى الحائط المقابل جدارية كبيرة سبق أن عُرضت في المعرض الاستعادي الذي أقامته الغاليري نفسها لكالان منذ عامين في «مركز بيروت للمعارض».
وجود الألواح الخشبية والجدارية أشبه بإقرار واضح أن المنحوتات قليلة، كما أن صغر أحجامها يتسبب في جعلها أقل أكثر.
لم تشوّش الجدارية والألواح على مزاج المنحوتات، ولكن ربما كان الأفضل عرضها وحدها، وربما جاءت هذه الإضافات للتذكير بتعددية ممارسات الفنانة الثمانينية التي رغبت الغاليري في الاحتفاء والتذكير بسيرتها المهنية كلها وليس بمنحوتاتها القليلة والصغيرة.. والثمينة.



هوغيت كالان: برونز»: حتى 28 شباط (فبراير) الجاري ـ «غاليري جانين ربيز» (الروشة). للاستعلام: 01/868290