القاهرة | لمدة عامين، ظلّ موريس لوقا يعمل على ألبومه الثاني «بنحيّي البغبغان» (نوى للتسجيلات – 2014) الذي يعدّ أبرز أعماله حتى الآن. تمكّن الفنان المصري من خلق حالة موسيقية خاصة تمتزج فيها طبقات الأصوات الغنائية التي تعبّر بالضرورة عن تناقضات الواقع المعيش. إنه الوقوف في منتصف المسافة بين اليقظة والحلم، فالإنسان ليس سوى هذا الكائن الذي تتواتر حياته بين شقّي الحلم واليقظة. أصوات متداخلة لفنانين من العالم العربي وخارجه.
مجموعة من الجمل الموسيقية الموزونة وأخرى ارتجالية تمثّل المحصلة النهائية لتلك المعادلة. حاول لوقا الإفادة من مصادر متنوعة في هذا الألبوم لتطويع مادته، ابتداء من موسيقى «السايكيدليك» وصولاً إلى موسيقى المهرجانات الشعبية المصرية. حال من الفك والربط يمارسها طوال الوقت لكسر الإيهام عند المتلقي. تلك الجمل الموسيقية والمقطوعات الفنية غير المعلّبة تظلّ عصية على التصنيف. في المقطوعة الرئيسة للألبوم «بنحيي البغبغان» حالة من الشدّ والجذب، كأن الموسيقى تريد الهروب من حيز الوقت ليعود لوقا ويكبح جماحها مرة أخرى، قبل أن يتداخل صوت علاء فيفتي ويهدر بكامل قوته «إصحا، صحصح، أوعا تنام، بنحيي البغبغان». طوال الاستماع إلى تلك المقطوعة المحورية، يتبادر إلى الذهن سؤال: هل أراد لوقا أن يستلهم البغبغان في إشارة إلى الحالة التكرارية الموسيقية التي يوزعها بانتظام قبل أن يضيف إليها روحه الخاصة؟ حالة من الوجد الموسيقي يرتفع بها لوقا نحو سماوات عليا ليست بالأحرى دينية لكنها مقدسة تضع الروح في حالة من التخدير والتماهي.
تذكر «المسحوب» بالملاحم الشعبية أو أقاصيص الفولكلور المصري لكن بحلة عصرية
شعبان البغبغان هو أحد نجوم الأغنية الشعبية. إنه صاحب «الغندورة» الذي ربما أراد لوقا أن يحييه على طريقته الخاصة في ما يشبه «شاويش» المسرح ونجم الليلة الأوحد. يكتمل هذا الطرح في مقطوعة أخرى بعنوان «شرّق راح تغرب» تبدأ بمقولة «شرّق راح تغرب، تبعد راح تقرّب، ح تولع صدّقني». أليس ذلك هو تناقض الحياة بصورته الجلية؟ بين الأصوات المهدورة، يمسك لوقا بأدواته باقتدار. يضرب المعدن هنا، ويزأر بغيتار كهربائي على الجهة الأخرى. طاقات كامنة مهولة يحولها واقعاً موسيقياً مُترجماً يحاول بكل طاقته اكتشاف كنوز القاهرة المدفونة، والعمل على خلق حالة إبداعية توازي تناقضات الشارع المصري. مساحات شاسعة من قرع الطبول، التنشيز بالغيتار، والشظايا الموسيقية المتناثرة على امتداد الألبوم. هذا الأخير أشبه بالماراثون الموسيقي، فلا بديل عن الاستماع دفعة واحدة من دون انقطاع. في إحدى المقابلات مع مصممّة غلاف الألبوم الفنانة المصرية مها مأمون، أشارت إلى أنها اقترحت على لوقا شكل الغلاف الذي يضم ببغاء في غابة قبل أن تعرف الاسم النهائي للألبوم.
بعد تخرجه من كلية التجارة، بدأ لوقا بالعزف على غيتار كهربائي ضمن فرق روك، ثم انضم إلى فرقتي «بيكا» و«الألف». هو يرى أن الموسيقى الإلكترونية في المنطقة العربية اكتسبت أخيراً نكهة ثورية، ليس في مفهومها، بل في إطارها الشكلي أيضاً. رغم أن تلك المقطوعات الإلكترونية مُزجت مع نجم المهرجانات الشعبية علاء فيفتي، إلا أنّها تستقطب شريحة أوسع. وكما تشير مها مأمون، فالبار هو مكان تجميعي لأشكال الإبداع الثلاثة التي تشمل الموسيقى والتصميم الفني والعرض البصري. تلك الموسيقى تحتفي بالمكان في الأساس؛ حيث حواري القاهرة وشوارع وسط البلد ومقاهي المثقفين. حالة من التجريب والارتجال يمارسها لوقا لاستكشاف هذا الزخم الموسيقي المدفون في العاصمة القديمة. أما مقطوعة «المسحوب»، فقد حملت طاقة عجيبة كأنها تشد الأذن إليها في حالة الاستسلام التام. كأنك مخدر وليس بوسعك أن تفعل شيئاً سوى الانجراف نحو تلك الأصوات التي تتقاطع وتتداخل في هستيريا رقمية. مقطوعة تذكر بالملاحم الشعبية أو أقاصيص الفولكلور المصري القديم، لكن بحلّة عصرية أشبه بالثورة. لوقا هنا أشبه بمن يستخدم مفكاً أو مفتاحاً ليتعامل مع أدق التفاصيل في صندوق الموسيقى، فيجعل منه حالة للنشوة السمعية. تلك المقطوعات لا تملك أمامها سوى التمايل يميناً ويساراً. إنه التناغم بين الغيتار الكهربائي، الأكورديون، البيانو، وأحياناً يكتفي بالموسيقى خالصة بلا أي شوائب كما في «العصر الذهبي». صدر للوقا ألبوم بعنوان Garraya، وشارك مع عازف العود العراقي خيّام اللامي ضمن مشروع «الألف» في بريطانيا، ومع الموسيقي المصري مصطفى سعيد ضمن العمل المسرحي «درس في الثورة»، لكن تظل مقولته ضمن مقطوعة «شرّق راح تغرب»: «إجري يالا في ضرب، مستني يجيي عليّا الدور»، أحد مفاتيح هذا العمل المميّز.




إطلاق ألبوم موريس لوقا «بنحيّي البغبغان» مع بشار فرّان (باص)، وتوماسو كابلاتو (درامز): 22:00 مساء الجمعة 20 فبرايرــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت) ـ للاستعلام: 76/309363