برلين |أول من أمس، اختتمت الدورة الـ65 من «مهرجان برلين السينمائي الدولي» متوّجة الإيراني جعفر بناهي (1960) بجائزة «الدب الذهبي» عن فيلمه «تاكسي». لـ«برلين» علاقة مميزة مع بناهي. ضمن المسابقة، قدّم فيلمه «تسلل» لينال عنه «الدب الفضي ـــ جائزة لجنة التحكيم الكبرى» عام ٢٠٠٦، ومن ثم فيلم «ستائر مغلقة» الذي نال عنه «الدب الفضي لأفضل سيناريو» عام ٢٠١٣. كذلك، دعا المهرجان بناهي للحضور كعضو لجنة التحكيم سنة ٢٠١١، إثر صدور حكم سجنه في إيران، ليترك كرسيه فارغاً يومها بين أعضاء اللجنة الآخرين.
غير أن كل من تابع أفلام المسابقة الرسمية في «مهرجان برلين» هذه السنة، كان على يقين أن «الدبّ الذهبي» لن يكون إلا من نصيب «تاكسي». بعيداً عن مواقف التضامن، لا يمكن تجاهل تلك الرائعة التي وصفها مدير اللجنة لهذا العام المخرج دارين أرونوفسكي بـ«رسالة حبّ إلى السينما».
كمشاهدين يصعب
أن نلمس بوضوح الخيط الفاصل
بين الواقع والخيال

في ٢٠١٠، صدر بحق بناهي حكم بالسجن في إيران لمدة ست سنوات. منع من السفر وإنتاج الأفلام لـ 20 سنة، بسبب مشاركته في تظاهرات ولـ«عمله الدعائي ضد النظام الإيراني». لكن ذلك الحظر لم يمنعه من مواصلة إنتاج أفلامه. عام ٢٠١١، قدّم «هذا ليس فيلماً»: وثائقي صوّره داخل منزله عبر كاميرات رقمية وبعدسة هاتفه. يومها، هُرِّب الفيلم من إيران على USB داخل قالب حلوى إلى «كان». وفي عام 2013، قدّم «ستائر مغلقة» المصوَّر أيضاً في منزله، ليصل الفيلم بدوره خلسة إلى «مهرجان برلين». لكن هذه المرة، خرج بناهي من خلف ستائر منزله إلى شوارع طهران لتصوير فيلمه عبر كاميرا مخبأة في سيارة تاكسي. كما في فيلم «عشرة» للمعلم الإيراني عباس كياروستامي، تستقبل سيارة الأجرة عدداً من الركاب/ الشخصيات، فيما تجول في شوارع طهران. لكن الفرق الأساسي أنّ سائق التاكسي ليس سوى المخرج نفسه. في تصويره لفيلمه الثالث تحت الحظر، لا يتحدى بناهي النظام الإيراني فحسب، بل يعلن خروجه من منزله إلى شوارع طهران وإعادة استملاك مدينته عبر عدسة كاميرته. داخل التاكسي، نستقبل مع بناهي شخصيات تتناول كلّ منها موضوعاً اجتماعياً وسياسياً معيناً. في البداية، يصعد سارق، ثم بائع الـ«دي في دي» أوميد المعجب ببناهي المخرج. يصرّ على المضي معه في رحلة طويلة، يقودنا عبرها إلى ذلك الشك المتواصل حول الحدود بين السيناريو المكتوب أو المرتجل. في مرات عدة في الفيلم، وأمام أحداث معينة، يتوجه أوميد إلى بناهي، مؤكداً له أنّه يعلم أن ما حصل الآن ليس سوى سيناريو مركّب، مثل اضطرار بناهي إلى حمل جريح وزوجته إلى المستشفى في سيارته. يصرّ الجريح على تسجيل فيديو وصيّته الأخيرة بتوريث زوجته ممتلكاته بعد موته كي لا يسطو عليها أخوته عبر حقّهم القانوني. هكذا تتابع الأحداث من دون استطاعتنا كمشاهدين أن نلمس بوضوح الخيط الرفيع الفاصل بين الواقع والخيال. في تلك المساحة الضيقة بين الواقع والخيال في السينما، اختار بناهي أن يعيد رسم صورة مدينته وصورة أهلها. من بين الركاب، نتعرف أيضاً إلى قريبة بناهي الصغيرة (هناء سعيدي) التي يقلّها من أمام باب مدرستها، وتتابع معه الرحلة حتى نهاية الفيلم. في السيارة، تسأل الطفلة عمّها عن كيفية صنع الأفلام ضمن المحظورات التي تفرضها وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، معبّرة عن سخطها لأن عليها تصوير فيلم قصير للمدرسة من دون أن تجد إلى ذلك سبيلاً. على لسان تلك الطفلة ذات الأداء المبهر، ينتقد بناهي بحنكة عبثية المحظورات السينمائية في إيران، وهكذا تفعل شخصيات الفيلم متناولة ومنتقدة أصغر وأكبر التفاصيل السياسية والدينية والاجتماعية في إيران. لكن المشهد الأجمل يبقى برفقة «السيدة التي تحمل الورود». خلال رحلة الفيلم، تتنبه الطفلة إلى سيدة بجانب الشارع، فتستوقف عمها منادية: أليست هذه «السيدة التي تحمل الورود» التي كانت تزورك دائماً؟ تصعد تلك السيدة مع ورودها إلى سيارة الأجرة، لتحتل المقعد الأمامي إلى جانب بناهي، فيما تتوسط الطفلة الصغيرة المقعد الخلفي. إنها ناشطة ومحامية، تدافع عن المعتقلين السياسيين في إيران، وتحمل دائماً لهم ولأهلهم الورود للتخفيف من آلامهم. عرفها بناهي خلال فترة اعتقاله. أما اليوم، فهي تهتم بقضايا أخرى. في التاكسي، تخبر بناهي عن قصص المعتقلين الذين ترافع اليوم. لكن أجمل ما في تلك المرأة والمشهد، هي تلك الابتسامة التي لا تفارق شفتيها، وإصرارها على الأمل، رغم كل شيء. إنّها السيدة التي تحمل الورود. إنها طهران الجميلة. صورة أبلغ من الشعر، أرادها بناهي في «تاكسي» توكيداً على الأمل، وإصراراً على حبّه لمدينته رغم الظلم الذي يعيشه اليوم. في النهاية، يركن بناهي سيارته ويترجل مع الطفلة للمرة الوحيدة في الفيلم، ويسيران بعيداً عن التاكسي. حينها، يهجم شابان على السيارة، يخلعان الباب، ويكسران الكاميرا داخلها. ينتهي الفيلم على مشهد اختفاء الصورة، وغياب الـ Credits، لعمل من غير المسموح تصويره في إيران اليوم.
لم يستطع بناهي الوصول إلى برلين لتسلّم الجائزة أول من أمس. تسلمتها الطفلة هناء سعيدي عنه. في رسالة سابقة للمهرجان، قال بناهي: «إنني مخرج سينمائي، لا أعرف سوى صناعة الأفلام ولا شيء يمكنه أن يمنعني عن ذلك». لطالما عرف السينمائيون الإيرانيون كيف يتحايلون على المحظورات والمعوقات التي تفرضها الدولة الإسلامية في إيران، وبخلقهم وذكائهم قدّموا روائع سينمائية. اليوم يضاف «تاكسي» إلى تلك الأفلام. شريط يتحدى لوجيستياً المعوقات والمحظورات. أما سينمائياً، فيتحدى أسلوب السرد في الأفلام الروائية. إنه انتصار لبناهي، وأملاً لنا أيضاً بإيران أجمل يوماً ما.




متوّجون



أسدل «مهرجان برلين السينمائي الدولي 65» ستاره متوجاً الإيراني جعفر بناهي بجائزة «الدب الذهبي» عن شريطه «تاكسي». وذهبت جائزة «الدب الفضي» لأفضل إخراج مناصفة لفيلمي «جسد» للبولندية مالغورزاتا سزوموسكا و«أفيريم!» للروماني رادو جود. أما «الدب الفضي لجائزة لجنة التحكيم الكبرى» فنالها المخرج التشيلي بابلو لارين عن فيلمه «النادي». وحصد مواطنه باتريسيو غوزمان «جائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو» عن فيلمه التسجيلي The Pearl Button. «الدب الفضي للفيلم الروائي الذي يفتح آفاقاً جديدة» ذهب إلى المخرج الغواتيمالي جايرو بوستامانتي عن Ixcanul. وعن دورهما في فيلم «45 عاماً» لأندرو هاي، حصل البريطانيان شارلوت رامبلينغ على «الدب الفضي لأفضل ممثلة»، وتوم كورتناي «الدب الفضي لأفضل ممثل».