حسناً. عاد إلينا «أبو الزلف» سليماً معافىً ومفعماً بحب قديم وأزلي للمسرح. هو المخرج والممثل الذي قال في مقابلة سابقة (الأخبار 15/8/2011) إنّه سيعتزل المسرح ويكتفي بالتدريس في «الجامعة اللبنانية الأميركية». لكن يبدو أن زياد أبو عبسي (1956) لم يستطع الهروب من جاذبية الخشبة، فعاد إلى جمهوره مخرجاً يدق باب «بيت الدمية» لهنريك ابسن (1828 ــ 1906).
خيار مناسب في زمن تُحرَم فيه المرأة العربية معظمَ حقوقها، ويجري التعامل معها كدمية لا أكثر. حين كتب المسرحي النروجي «بيت الدمية» عام ١٨٧٩، لم يكن يعلم أن تلك المسرحية ستصبح ـ كما صنفّها كثيرون ـ «مانيفيستو نسوياً». تلك المسرحية التي هوجمت نقدياً إبّان عرضها، لكونها تهاجم مؤسسة الزواج، لم تجد من يدافع عنها آنذاك إلا جورج برنارد شو. أما ابسن، ففضل الابتعاد عن أي تصنيف أو تأطير لمسرحيته، مصرّحاً بأنّه ليس أكيداً ما هي حقيقةً حقوق المرأة.
اعتماد أصول المدرسة
الواقعية في العرض
بالنسبة إليه، كان الأمر متعلقاً أكثر بحق الإنسان وواجبه المقدّس تجاه ذاته: على كل البشر ـ رجالاً ونساءً ـ أن يمتلكوا الجرأة لتخطي القواعد والقيود التي وضعها لهم المجتمع ويشكلوا آراءهم الخاصة. لا يمكن أن يرضخ المرء لبرمجةٍ تحوّل الزوج إلى مؤمّن الغذاء المهيمن، وتختزل دور الزوجة بـ»ربة المنزل الخاضعة».
تجري أحداث «بيت الدمية» في منزل نورا زوجة زياد الذي اعتلى أعلى المناصب في أحد المصارف. منزل تقليدي يشير إلى الحال الميسورة للعائلة. لكن الوضع لم يكن كذلك قبل بضع سنوات. نورا المدلّلة كدمية اليوم، كانت تعمل مثل زوجها وتتعب مثله في سنوات الزواج الأولى، إلى أن مرض زياد، فاضطرت إلى استدانة مبلغ من المال من دون علمه كي لا تخدش رجولته وكي يتاح له العلاج لمدة عام في الخارج. للحصول على المال، زوّرت إمضاء والدها الذي كان يفترض أن يكون كفيلها في القرض الذي حصلت عليه بواسطة كريم. يعود كريم الذي أصبح الآن موظفاً صغيراً في المؤسسة التي يديرها زوجها ليبتزّ نورا بعدما أنذره زياد بالصرف من عمله. وحين علم الزوج بموضوع تزوير التوقيع (عبر رسالة بعثها كريم)، يعاقب زوجته رغم أنها قامت بكل شيء لأجله ويمنعها من تربية الأولاد، على أن تبقى في المنزل حفاظاً على صورته ولمكانته أمام المجتمع. بعد لحظات من قراءة الرسالة الأولى، تصل رسالة ثانية من كريم يعتذر فيها من عائلة زياد ويقدم له سند الاستدانة. يعود الزوج إلى تدليل زوجته كما لو أن شيئاً لم يكن. في تلك اللحظة، تنتفض نورا التي لم تعد تريد أن تكون دمية في منزلها بعدما كانت كذلك في منزل والدها. تخرج من غرفة الجلوس وتغلق الباب خلفها مختارة حريتها وإعتاق نفسها من زيف العلاقة الزوجية. على خط موازٍ ومنذ بداية العرض، هناك امرأة أخرى تختار البحث عن ذاتها، ولو لمرة واحدة بعدما ضحّت بحبها الأول وتزوجت بأول رجل ميسور لإعالة والدتها وأشقائها. هي كريستين صديقة نورا التي زارت منزل الثنائي بحثاً عن عمل بعدما أحست بعد وفاة زوجها ووالدتها وزواج أشقائها بأن لا أحد يحتاجها. أرادت أن تملأ وجودها بشيء يغنيها هي وحدها فقط. في منزل نورا، تلتقي بحبها الأول كريم وتقنعه بإرسال ورقة اعتذار لزياد ونورا بعدما باحت لها نورا بكل شيء. في هذا العمل، أراد زياد أبو عبسي اتباع أصول المدرسة الواقعية في المسرح، خصوصاً أنّه يعرض عملاً لأبي المسرح الواقعي، فانعكس ذلك على مختلف عناصر العرض من الديكور (حسن صادق) والإضاءة وأزياء الممثلين. زياد الذي لبنن العرض بقي على تخوم وفائه للنص (رغم حذفه بعض المقاطع) الذي تركه ابسن إرثاً ثميناً في تاريخ المسرح العالمي. وقد بدت الكلمات التي تخرج من أفواه الممثلين مصطنعة أحياناً، كما لو أن زياد التزم ترجمةً حرفية للمؤلف. وهنا تطرح بعض الأسئلة: لماذا لم يذهب في لبننته «بيت الدمية» إلى ما هو أبعد من «ترجمة حرفية للأحداث بكلمات لبنانية»؟ وما هو الدور الذي لعبه ويلعبه الدراماتورج (خليل متبولي) في عمله مع النص، والممثلين وباقي عناصر العرض إذا كان المخرج قد اتخذ قراراً مسبقاً بالوفاء للنص؟ أما عن أداء الممثلين، فكان حضور زي الخولي (نورا) الذي تميز بانسيابية وتلقائية، نقطةً مضيئة في العرض كما كان أداء باسل ماضي (زياد) متقناً ومناقضاً في نمطه التمثيلي لأداء زي الخولي، وذلك مقصود من قبل المخرج. ولا ننسى في هذا السياق جمالية أدائهما في مشهد العودة من الحفلة التنكرية. لا شك في أنّ الجمهور اللبناني بحاجة لعروض مماثلة تحرّر المرأة من فكرة أنها تابع للرجل، وتدعوها إلى «خلع زيها التنكري». ليس هذا العرض الأول الذي يتطرق إلى موضوع المرأة وتعرضها للظلم والقمع. منذ فترة، نشهد أعمالاً عدة قدمت في هذا الصدد، منها «مرا لوحدا» للمخرج شادي الهبر والممثلة خلود ناصر، و«هيدا مش فيلم مصري» للينا أبيض. وبدءاً من اليوم، يعرض المصمم والراقص مالك العنداري «امرأة تحت السطر» في «دوار الشمس». عمل يتطرق إلى واقع المرأة في المجتمعات الشرقية، وتحديداً لبنان.



«بيت الدمية» لزياد أبو عبسي: حتى 15 شباط (فبراير) ـ «مونو» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/421870