ليس من الصعب على من يقرأ التاريخ أن يقف على كمّ هائل من العنف الذي عرفته البشريّة، وليس التاريخ العربي والإسلامي إلّا جزءاً من هذا التاريخ. ولئن كانت كتب التاريخ قد وثّقت الكثير من ذلك العنف، فإنها وثقّت أيضاً لأساليب التعذيب والقتل المتنوعة التي تفنّنت البشريّة، عبر العصور، بابتكارها.
ولعلّ القرون الوسطى كانت إحدى أكثر الحقبات التاريخيّة دموية، فهناك تمّ استخدام جلّ ابتكارات الإنسانيّة من تلك الوسائل (الصلب، المشنقة، المقصلة، الذبح، قطع الرؤوس، الحرق...الخ)، وهذه الوسائل لم تكن حكراً على جغرافية معينة، أو فئة أو شعب محدّد، بل عانت منها شعوب الأرض جمعاء، على اختلاف أعراقها وانتماءاتها الدينية. فإن كانت كتب التاريخ قد وثقت لإحراق الشاعر الألماني كيرينيوس كولمان بتهمة الهرطقة بأمر من الكنيسة، فإنها وثقّت بالمقابل لإحراق الحلاج بعد قطع أطرافه ورأسه بأمر من الخليفة المقتدر. إذاً فأسلوب الحرق ليس جديداً على البشريّة، كذلك فإنّ قطع الرؤوس والأطراف وأساليب التعذيب والإعدام الأخرى التي يرتكبها «داعش» منذ سنوات ليست أساليب مبتكرة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من العنف الذي عرفته البشرية.
أسلوب الحرق ليس جديداً، كذلك قطع الرؤوس والأطراف
إنّ ما أثاره شريط الفيديو الذي نشره «داعش»، أول من أمس، عن إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً، من ردود فعل، ليس سببه إذاً المفاجأة بأسلوب إعدام سبق أن استخدم مراراً عبر التاريخ، واستهجان الكثيرين لهذا الأسلوب، لما ينطوي عليه من تعذيب قبل الموت، في زمن بات فيه الرصاص هو السلعة الأكثر توافراً على الأرض السوريّة، يأتي بسبب عدم المقدرة على فهم العقليّة «الداعشية» التي انطلقت في حكمها على الكساسبة، بأن يموت بهذه الطريقة الفظيعة، من تعاليم ابن تيمية وتوصياته (كما توضح نهاية الشريط).
الأمر الذي أثار حفيظة الجميع، وجعل من قضيّة إحراق الكساسبة محطّ إدانة من مختلف الأطراف، هو طريقة عرض لحظات الإعدام هذه. فمن تابع الشريط يمكنه الوقوف على حرفيّة عالية استخدمت فيها جهود كثيرة لإنجاز هذا الشريط. ويمكن للمتابع أن يلحظ الاسلوب الهوليوودي في إخراج الشريط، حيث حرص داعش لمدة 22 دقيقة تقريباً من زمن الشريط على التمهيد للحظة الإعدام عبر عرضه لمقدّماتٍ تخلق المبرر لما سيأتي لاحقاً، الأمر الذي تتقنه السينما الأميركية جيّداً. كل ذلك قبل أن يظهر الكساسبة في المشهد وهو يمشي بين مجموعة من المسلحين بلباسهم العسكري الموحد، يمشي مستعرضاً المكان الذي سيق إليه وهو يتذكر لحظات سقوط طائرته، تتخلها صور لضحايا الضربات الجويّة التي تقوم بها قوات التحالف، يتمّ التركيز خلالها على جثث الأطفال، وذلك باستخدام تقنيات الغرافيك بحرفية عالية، ما يعني وقوف مخرج ومونتير محترفين وراء صناعة الشريط.
بعد ذلك تنحو الكاميرا إلى تصوير مسرح عمليّة الإعدام حيث الأرض صحراويّة، يتوزّع المسلّحون فيها، بطريقة سينمائية مدروسة بعناية، حول القفص الذي يتجه إليه الكساسبة الذي يتضح للمشاهد تماماً أنّه في هذه اللحظات يؤدّي دوراً تمثيلياً مرسوماً له بعناية. هنا تعيدنا المشاهد المصورة إلى مشاهد لا تزال في ذاكرة المشاهد العربي من مسلسلات «الفانتازيا» السورية التي طغت على الدراما السورية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى مطلع الألفية. فمشهد الجنود حول القفص بوقفتهم الصامتة بسلاحهم الكامل، بدا مستنسخاً عن مشاهد كثيرة سبق للمشاهد العربي أن عرفها في مسلسلات المخرج السوري نجدة أنزور مثل (الجوارح والكواسر والبواسل... الخ)، وكان أبرع من قام بتنفيذها، إن كان من حيث اختيار اللوكيشنات أو توزيع الممثلين أو اختيار الكوادر وحركة الكاميرا، وهو تماماً ما يظهر في شريط «شفاء الصدور»، حتى إنّ اختيار القفص مكاناً لتنفيذ الإعدام لا يخرج عن ذلك، إذ سبق لقفص مشابه أن استخدم في تلك المسلسلات التي امتلأت آنذاك بمشاهد العنف والتعذيب.
يضاف إلى كلّ ذلك البراعة في استخدام المؤثرات الصوتية والمكساج، وبذلك يكون المشاهد طوال الوقت مأخوذاً تماماً كدهشته أمام فيلم سينمائي مصنوع بحرفية، تعزّز له ذلك الشعور حركة الكاميرا وطريقة تقطيع المشاهد، وصولاً إلى الذروة الدرامية لحظة بلوغ النار جسد الكساسبة، قبل أن تتدخل الجرافة لتدمير القفص ودهس الجثة بعد ذلك في نهاية الشريط معلنة نهاية الفيلم «الداعشي».
يبدو أنّ الدراما التي برع السوريون في صناعتها لسنوات طويلة، والتي تركت أثرها في جلّ الحياة الاجتماعية السورية، لم يقتصر تأثيرها في ذلك فقط، بل لا تزال مصدر إلهام حتى لـ«داعش». وبذلك تكون الحرب التي جعلت الدراما السورية تتحوّل إلى دراما نازحة ولاجئة، وأفقدتها قيمتها الفنيّة التي امتازت بها لمصلحة موجة من المسلسلات الرديئة التي تضجّ بالتفاهة، ومنعتها من مجاراة الواقع (الميزة التي لطالما فاخرت الدراما السورية بها) قد منحت «داعش» أفكاراً جديدة لتحويل الواقع بحدّ ذاته إلى مادّة دراميّة، كوسيلة ناجعة للوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين، وبذلك نكون قد دخلنا عصر الفانتازيا المعاصرة، بعدما اندثر زمن الفانتازيا التاريخيّة.