العلاقات المعقدة والملتبسة هي لعبة كزافييه دولن (1989) المفضلة الذي يخوض في مناطق متطرفة وخطرة من تركيبة النفس البشرية قد تشبه إلى حد ما ثيمات المعلم الاسباني بيدرو ألمودوفار. منذ باكورته الروائية «لقد قتلت أمي» (2009)، فرض نفسه مخرجاً ذا بصمة خاصة. في «مامي» (2014) الحائز لجنة التحكيم في «كان» هذه السنة، يفصّل المخرج والممثل الكندي الشاب جحيم العلاقة الأوديبية مع الأم. وإذا كانت الأم في شريطه السابق «لقد قتلت أمي»، متملكة ترفض إطلاق سراح ابنها، فإنّها والابن لا يقلان اضطراباً عن بعضهما في «مامي».
يبدأ الفيلم بمشهد ديان (آن دورفال) وهي تتحدث مع مديرة مركز التأهيل التي تشرح لها خطورة وضع ابنها ستيف (أنطوان أوليفييه بيلون) بعد إضرامه حريقاً تسبّب في إصابة أحد الاولاد. تخيّرها بين أن يعود للسكن معها أو يرسل إلى دار الأحداث في حين أنّ ديان التي تبدو لا مبالية تسخر منها بطريقة فظة، لكنها تعود لتدافع بشراسة عن ابنها. تلك الفجاجة في شخص ديان كما ابنها المخالفة لكل ما هو مقبول اجتماعياً تضفي على الفيلم حس سخريته الممتع والذكي معاً. تحضر ديان ابنها ليسكن معها ويبدآن بالتخطيط لحياتهما الجديدة كأي عائلة عادية. لكن لا شيء عادياً في علاقة ستيف بأمه. مفارقة يطرحها المخرج ببراعة، وهو يلعب على وهم العائلة الطبيعية أو السعيدة. نرى ديان تقتحم غرفة ابنها بلا استئذان. وحين يعترض قائلاً: «لمَ لا ترافقينني إلى الحمام أيضاً؟»، تجيبه بهدوء: «لمَ لا إذا احتجتني؟».
نال جائزة لجنة التحكيم
في «مهرجان كان»

من جهة أخرى، يذهب ستيف للتسوق على طريقته (السرقة) ويحضر لأمه عقداً كُتب عليه «مامي». مشهد ينقلب إلى كارثة حين لا تبالي ديان بهديته وتتهمه بالسرقة. يفقد ستيف السيطرة ويحاول خنق أمه التي تتسبب بجرحه دفاعاً عن نفسها. هذه هي فقط المشاهد الأولى التي ترسم علاقة الشغف المريضة بين الأم والابن. يرجع المخرج أحد أسبابها إلى وفاة الأب، بمعنى آخر، غياب العائق الذي كان يفصل بين الأم والابن أو تحقيق الرغبة الأوديبية. وقد يكون أيضاً تدهور حالة ستيف بعد موت أبيه والغضب الذي اجتاحه نتيجة شعوره بالذنب لتحقق الرغبة الرمزية بقتل الأب فعلياً. وكي يكتمل المثلث العاطفي الناقص الذي هو إحدى الثيمات المكررة في أعمال كزافييه، يُدخل طرفاً آخر في العلاقة هو الجارة كيلا (سوزان كليمان). تختنق كيلا بحياتها الهادئة والمنضبطة وتعاني منذ سنتين من مشكلة في النطق، فتتعثر في الكلام عكس ستيف وديان اللذين لا يتوقفان عن الكلام على نحو هستيري. بطريقة ما، يكمل الثلاثة بعضهم. يساعد وجود كيلا في هذا المحيط المنعتق من كل القيود على التحرر من صمتها، بينما تلعب دور الأم البديلة لستيف برقتها وتشجيعها له، لكن أيضاً بصرامتها التي تمكنها من السيطرة على غضبه، فتصد محاولاته للتحرش بها بعكس أمه الحقيقية التي تعترض بدلع. أيضاً، تبدو العلاقة ملتبسة بين ديان وكيلا في البداية حيث تتبادلان النظرات عبر النافذة التي تجمعت فيها الأوساخ على شكل أشبه بقلب، في إحدى اللقطات الطريفة والساخرة التي تمتاز بها اللغة السينمائية. وإن كانت العلاقات التي يشرحها المخرج متأزمة ومعقدة، إلا أنه لا يحاكمها. في ظل جو الصخب الذي يسيطر على الشريط، وحدها الكاميرا تسرد في المشاهد الصامتة ما يتجنب الحوار والشخصيات الخوض فيه كما شبح الأب الغائب أو ابن كيلا المتوفي التي لا تتحدث عنه أبداً. أكثر ما يميز اللغة السينمائية نقلها ببراعة حميمية التفاصيل الصغيرة، والرمزية التي يعبر عنها المخرج في هندسة اللقطات كما في مشهد البداية حين تخسر ديان عملها ويواسيها ابنها فتتنقل الكاميرا بين وجهيهما بسلاسة مصورة لقطات تفصيلية إلى أن يثبت المشهد فيضع ستيف يده على فم أمه ويقبلها. كذلك، يلعب المخرج عبر الضوء على الصراع بين الأمل واليأس مصوراً شخصية ستيف المتطرفة بحدتها وعنفها وشغفها بالحياة مثل المشهد المشمس حيث يقود عربة التسوق، يقابله المشهد الأخير بألوانه الرمادية حين تقوده أمه إلى المستشفى.

* «مامي» لكزافييه دولن: «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080