هل تبحثون عن سوريا؟ يمكنكم التوقف عن البحث. لا عليكم، ثمة من تصدّى للمهمة وعثر على الفردوس الضائع. ها هي «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» (UNHCR) تبشّرنا بأنها «وجدتها». أين؟ هناك... في بلدان اللجوء! عملية البحث ربما كانت مضنية، والأرجح أنها لم تكن كذلك، وقد أُوجزت نتائجها في شريط فيديو قصير بثّته المفوضية أخيراً عبر قناتها الرسميّة على يوتيوب بعنوان «The search for Syria/ البحث عن سوريا».
الشريط جاء في سياق حملة ترويجية مستمرة تقوم بها المفوضية بغية جذب دعم دائم لعملها، ولم تتجاوز مدته الدقيقة وربع الدقيقة. في المشاهدة الأولى (عادةً ما تكون أشبه بقراءة أولى تكتفي بملامسة السطح)، سيجد المتلقي نفسَه تحتَ ثقل ضغط عاطفي مُكثّف، تُغذيه صور الدمار السوري، مترافقةً مع أنغام أغنية جميلة ودافئة هي Crosses للمغني خوسيه غونزاليس (صدرت عام 2003). في المشاهدة الثانية، نذهب قليلاً نحو العمق في محاولة للانعتاق من الثقل العاطفي، واستبطان الرسائل والدلالات. يعرض لنا الشريط لقطات لعمليات «البحث عن سوريا» عبر محرّك البحث Google. لكنّ البحث الأول يستهدف بيوت السويد!
وتكون النتيجة بطبيعة الحال صوراً لبيوت فارهة وجميلة. في البحث الثاني، يكون الهدف: بيوت سوريا. والنتيجة صور لأنقاض بيوت تركتها الحربُ شاهداً فجائعياً. يتكرّر البحث المُقارِن، مستهدفاً السيارات هذه المرة. وتتكرر النتائج: سيارات السويد الجميلة، مقابل سيارات سوريا المحترقة. ينقلنا الشريط بعدها إلى ثالث «السّلع» المعروضة في بازار المقارنة: الأطفال! أطفال السويد سعداء، الابتسامة قاسمهم المشترك، أحدهم يمسك سمكة يبدو أنه اصطادها للتو، وآخرُ يهم بالقفز ليستمتع بالسباحة ويرفرف قربه العلمُ السويدي. أما أطفال سوريا، فالمأساةُ قاسمهم المشترك بطبيعة الحال. الدّم حاضرٌ في لقطات عدة، الخوف، والدموع أيضاً.
يروّج الفيديو للجوء بوصفه الخلاص على وقع أغنية Crosses لخوسيه غونزاليس

الطفل السوري المبتسم الوحيد في صور المفوضية هو طفل يلعب مع صديقه لعبة المسدسات، ويتبادلان إشهار اثنين منها! لحظة، لعبة المقارنات لم تنتهِ بعد. ثمّة عنصر ثالث يدخل المقارنة هذه المرة. ها نحن أمام صورٍ لأطفال سوريين ليسوا مبتسمين فحسب، بل تحفّهم السعادة والضحكات. لكن أين؟ في مخيّمات اللجوء! هنا حيث الأطفال فرحون، بعضهم يرقص، بعضهم يتعلّم. أما الصورة الختاميّة، فلستة أطفال سوريين ليسوا سعيدين فحسب، بل يرفعون أيضاً شارة النصر!
يحفل الشريط بمفارقات كثيرة، تستدعي التوقف عندها، علاوةً على أن المقارنة بين السويد وبين أي من بلدان العالم الثالث (ولو كان البلد في أفضل حالاته) تبدو مفارقةً قائمة بحد ذاتها، سنجد أنفسنا أمام مفارقات أخرى أشدّ استدعاءً للتأمّل، أبرزها أن الطفل السوري لم يظهر مبتسماً سوى مرتين. في الأولى كان حالةً شاذة عن المجموع حيث المبتسم هو من يحمل سلاحاً. وهو بطبيعة الحال، سيتحوّل إلى أحد اثنين: قاتل أو قتيل. وفي الثانية، كان الكلّ مبتسماً (على غرار الأطفال السويديين) ولكن في مخيمات اللجوء، كأنّ المخيّم جسرٌ يعبره أطفال سوريا نحو ابتسامة دائمة في حياة أخرى... سويدية ربما! كأنّ على الطفل السوري أن يكون أمام خيارين لا ثالث لهما: التحول إلى قاتل أو قتيل في بلاده، أو عبور جسر المخيمات نحو لجوءٍ سعيدٍ ومبتسم! في المفارقات أيضاً تبرز الأغنية المُختارة لتكون خلفيةً للشريط، حيث crosses هي الصلبان، كما أنّ فعل cross يعني «عبور». فلنختر إذاً بين الصلب أو العبور!
المضي في قراءة الشريط الترويجي على النهج ذاته سيكون كفيلاً بطرح الكثير من التساؤلات، واستخلاص إجاباتٍ جميعُها يجعل الشريط حاملاً لأفكار غير بريئة على الإطلاق. وتحاشياً لتعميم هذه النتائج من بوابة «نظريّة المؤامرة»، سيكون علينا أن نضعَ احتمالَين: أوّلهما أنّ صُناع الشريط يدركونَ تماماً ماذا يفعلون، وهذه مصيبة. والثاني أنّهم لا يدركون ذلك، لتصبح المصيبة أعظم، لا سيما أنّنا أمام شريطٍ تبثّه منظمة دولية عريقة، لديها من الإمكانات ما يخوّلها اللجوء إلى صُنّاع محترفين، لا هواة يجرفهم الحماس «الترويجيّ» إلى مستنقعاتٍ ومطبّات.
«البحث عن سوريا» لا يمكنُ له أن يُنجزَ من خلال شريط بهذه السذاجة (أكانت دوافعه بريئة أم غير ذلك) هو بحثٌ يُمكن أن يُجدي فقط، وفقط إذا أدركَ أبناؤها روعةَ ما أضاعوا، وعظَمة الفردوس الذي عنه يبحثون.