دمشق | لا يستعيد بطرس المعري (1968) دمشق من خانة الحنين، كما توحي أعماله للوهلة الأولى. إنه يعيد بناءها من الضفة المضادة بقصد إطاحة ما هو راسخ في الذاكرة الجمعية التي استقرت على عناصر تخييلية في بناء سرديتها البلاغية المحشوة بوهم البطولات الخارقة، بالإضافة إلى تفكيك الأيقونات الشعبية نحو جذورها الأولى، وتالياً الخروج من أسرها إلى عتبة أخرى بلا قيود.في معرضه «3 سنوات من ممارسة الفايسبوك» الذي تستضيفه غاليري «تجليات» في دمشق، يعزّز اشتغالاته على الموروث الشعبي بنبرة تهكمية أعلى، من دون أن يغادر منطقته الأثيرة: المقهى، والحكواتي، وأبطال السير الشعبية. قد نتكئ على جمالية القيم التي كرّستها هذه العناصر لجهة البطولات والأمجاد والمآثر، لكن التشكيلي السوري المرح، يعاجل إلى خلخلة هذا اليقين بسعيه إلى تحطيم القشرة الصلبة للحكايات الشعبية، وتعرية شخوصها من قدسيتها لدى المتلقّي.

خلال إقامته القسرية في هامبورغ الألمانية، لجأ بطرس المعرّي إلى فايسبوك لنشر رسوماته، محاولاً استعادة ذاكرته الدمشقية.
وجد في شخصية الحكواتي بؤرة مركزية في تلخيص طبقات المدينة، التي لم تخلع «الطربوش» إلى اليوم، رغم المحن التي عبرتها وما زالت، كأننا لم نخرج من عقلية «العصملي». بشر مسترخون ينفخون دخان نارجيلاتهم بكسل وضجر، فيما الحكواتي يشحذ الهمم بسير آفلة، وسيفٍ مسلول، عن أبطال محتجزين بين دفتي كتاب عتيق، ما إن يغلق دفتيه، حتى يعودون إلى قفص التاريخ المتخيّل. عنترة بن شدّاد «أبو الفوارس» يتحوّل هنا إلى حصان بذيل سمكة تمتطيه عبلة العارية إلا من وردة تحملها بيدها. تخرج ثيران هائجة من متن حكاية أخرى، ويتسلل شخص أجنبي بنظارات غامضة إلى عمق المقهى، مبتهجاً بسحر الزمن الشرقي. في موازاة هذا الهجاء، يتهكّم المعرّي ربما من «ممارسة» فايسبوك باعتبارها بطولة افتراضية، لا تختلف عن أبطال ذلك المجلد القديم بين يدي الحكواتي. وإذا بعشرات «الفوارس» يستلّون سيوفهم الخشبية في الفضاء الأزرق على بعد آلاف الأميال من موقع الكارثة، في مواقف كرتونية لا أكثر، بينما تتسع رقعة الحطام فوق الأرض. القراءة النوستاليجية لدمشق ومناخاتها السحرية، التي يجدها آخرون، خلال تجوالهم بين أعمال هذا الرسّام، تبدو لنا قراءة قاصرة ومبسترة وعرجاء. ذلك أنها لا تتوغل في الطبقة العميقة لما تبتغيه هذه السرديات البصرية في نبشها لموروث ظلّ بمنأى عن الحداثة، لزوم النظرة السياحية في المقام الأول، وتعزيز فكرة «الاكزوتيك الشرقي»، ولوغو لتمجيد الأسلاف وحسب، وهم بذلك يتخفّفون من ثقل الفاتورة الراهنة وتراكم الهزائم.
اختيار المعري هذا الطراز من الرسم، آتٍ من دراسته الأكاديمية لفنون «التصاوير الشعبية»، ومحاولة تطويرها بما يتواءم مع مستجدات عصر آخر، أقله على صعيد الشكل باستخدامه مواد وأنماطاً مختلفة، إذ لا يتوانى عن مزج الكوميكس مع الكاريكاتور، والكولاج لشحن فكرته بمعنى مختلف عن النسخة الأولى لهذه التصاوير. كما يصالح بين أسلوبي برهان كركوتلي وأبي صبحي التيناوي في بناء لوحته ومقاصدها السردية. كان الأخير من أشهر الرسامين الشعبيين في دمشق الذين عملوا على تخليد أبطال السير الشعبية. وها هو المعرّي يستثمر المناخات نفسها، لكن من موقعٍ مضاد لجهتي المعنى والشكل، في مفكرته اليومية، قبل أن ينقلها إلى صفحته على فايسبوك كنوع من المساهمة في استعادة علاقته بمدينته القصيّة وما تعيشه من آلام وقتل ودمار. كأنه يرغب بإدانة «الحكواتي» نفسه، ودوره في تأصيل تاريخ مزوّر. وإلا من أين أتت هذه الوحوش المتصارعة، وإلى أين فرّ أبو زيد الهلالي والزير سالم وعنترة، من أرض المعركة، ومن سلب عبلة ثيابها وزينتها، ومن صلب المسيح الدمشقي مرة أخرى، وكيف غابت النخوة عن فضاء المقهى؟ متواليات تصويرية تحاكم النص الأصلي أو تعيد صوغه بحبرٍ آخر. وما اختياره عملاً مستوحى من مناخات كركوتلي ولوحته المشهورة «أبو فهد وزوجاته الأربع» ملصقاً للمعرض، إلا إشارة إلى جهد الفنان الراحل في تطوير الفن الشعبي، والإضافة إليه، بما أفرزته المحنة السورية من خراب روحي، لن تنقذه «رقصة الدراويش» التي لم نخرج من خدر وغيبوبة إيقاعاتها إلى اليوم، وكذلك استخدام وسائط الميديا الجديدة في توسيع دائرة حضور هذا الفن عن طريق توضيب مفردات المخيّلة الشعبية بأداء مختلف عمّا هو مألوف، وتحطيم القواعد وفقاً لارتجالاته. نتجوّل بين ردهات المعرض، ونحن نتلمّس رؤوسنا بهلع: هل خلعنا الطربوش حقاً؟



«3 سنوات من ممارسة الفايسبوك» لبطرس المعري: حتى 31 كانون الثاني (يناير) ـــ «غاليري تجليات» (دمشق). للاستعلام: 00963112338