تونس | امرأة في العقد الرابع من عمرها، تتعرض للعنف اللفظي والجسدي أثناء عودتها في إحدى الليالي من العمل. تجد نفسها في لحظة خوف وحقد تجاه مجتمع جديد بالنسبة إليها. في المقابل، هناك رجل كان ملاكماً مشهوراً، قتل خصمه في إحدى المنازلات من دون قصد، قبل أن يقرر اعتزال هذه الرياضة التي تحولت من فن نبيل إلى سبب في وفاة شخص ما.
سيكون هذا أيضاً سبباً لهجران زوجته وابنته له، وخسارته أملاكه، ما يدفعه نحو التزمّت. هذا باختصار فحوى مسرحية K.O أو «الضربة القاضية» بلغة الملاكمة التي انتهت عروضها أخيراً، وكتبت نصها الممثلة جميلة الشيحي وأخرجها نعمان حمدة، ويؤديانها معاً. العرض الذي يعد أول أعمال «المسرح الوطني التونسي» بإدارة المخرج الفاضل الجعايبي لعام 2015، يطوف بنا في ثنايا تونس ويترجم الواقع الذي يأسر مواطنيه. تتحدث شخصياته عن نظرة المجتمع التونسي (أو جزء منه) لامرأة منكسرة يتقاذفها أفراده ويعتبرونها أقل منهم، مستغلين بنيتهم الجسدية لتفريغ عنفهم وعقدهم واهتزازاتهم النفسية. هي تلك الفتاة التي كبرت في بيت يؤمن بالأخلاق والمبادئ ويقدسها. لكن بمجرد تجاوزها عتبته، تكتشف عالماً آخر غارقاً في الأنانية يحمل كمّا هائلاً من البغض، فتقرر أن تصبح «قوية» وتمتلك تلك القدرة على مواجهته بلغته، أي عن طريق تعلم الملاكمة. يحاول الملاكم تفاديها، فهي بالنسبة إليه كمن أتى ليفتح جرحاً بالكاد اندمل، ويصب عليه مِلحاً سيؤجج آلامه ويجتر من خلالها عذابات أرقته طويلاً. لا يريد أن يتذكر أنه قاتل، ولا خسارة أمواله. لا يريد أن يتذكر أنّ زوجته وابنته هجرتاه وأصبح منبوذاً في مجتمع يقدس القوي. لا تنفك تلك المرأة تستفزه، تناوره، تحفر عميقاً داخله لتخرج منه أفضل ما فيه أو ما تحتاجه منه. يستكينان إلى بعضهما ويجد كل واحد في الآخر ما بحث عنه دهراً أو أكثر، فالألم واحد ولا شيء يمنعهما من أن يكونا معاً في المستقبل، يؤنس كل واحد منهما وحشة رفيقه. لا يخلو K.O من مؤثرات ساهمت في نجاحه، فالموسيقى تجعلك تتبّع خطى المسرحية فصلاً فصلاً، تصعد بك وتنزل، تتسارع وتتباطأ، تنخفض وترتفع، فلا تتركك وشأنك. أما الأضواء فبتدو كمن يأخذك من يدك ليريك عالماً آخر، من زقاق إلى زقاق ومن درب إلى درب، تحس بالانطلاق وأنت جالس في مكانك. أما الرؤية الإخراجية كما عبر عنها صاحبها نعمان حمدة، فهي محاولة لعدم الامتثال للواقعية الصرفة وخلق لا واقع ممكن منطقياً، أو واقع خارق للعادة، بمعنى الكشف عن عالمنا الآخر، عن الحياة الملتصقة بنا أشد الالتصاق. أي تلك التي لا تخضع للمحاكمات العقلية أو المعايير الاجتماعية التي نخفيها عن عيون الآخرين ولا نكشف عنها. لا بد للأخلاق من قوة تحميها ولا بد للجمال من عنف يُسوّره ويذبّ عن حماه، في حين ليس كل عنيف في ظاهره حمّالاً للحقد والكره بالضرورة، بل قد يكون مكرهاً على ممارسة هذا العنف لسبب ما. ربما هذه هي كلمة السر التي أراد الممثلان إيصالها، واللذان لم يُذكر لهما اسم، فهما أنا وأنت، هي وهو، هما ترجمة لمجتمعاتنا الغارقة في عنفها ومرارتها حد الثمالة.