كثيرة هي الألقاب التي حصل عليها. هو الدكتور، واللواء، وموسيقار الأجيال، وغيرها الكثير. إلا أن العتاق من «سمّيعته» كانوا دوماً يفضلون استخدام لقب «المعلم» حين الحديث عنه. لا شكّ في أنّ أيّ مهتمّ بالموسيقى، وخصوصاً الموسيقى العربية، سيوافق مباشرة على هذا اللقب حين يكون الحديث عن محمد عبد الوهاب (1902 ــ 1991).ما قدّمه الرجل عبر مسيرته الطويلة لم يكن محصوراً بكونه ملحناً ومؤلّفاً موسيقياً استثنائياً. تجاوز ذلك ليغدو بمثابة مؤسسة ثقافية رفيعة المستوى استطاعت ترك أثرها في أجيال متلاحقة، ليس بتحسين ذائقتها الموسيقيّة فحسب، بل بفتح بوّابات الحداثة أمامها في الشؤون السياسية والثقافية والفكرية. من هنا ينطلق الكاتب والناقد الموسيقي الياس سحاب، شارحاً الأسباب التي دفعته لإصدار كتابه «مع محمد عبد الوهاب» (دار نلسن).

لا يمكن تصنيف المؤلف ضمن خانة كتب السيرة التي تهتم برواية تفاصيل حياة الفنانين والمشاهير.
هو عبارة عن مجموعة من المقالات الصحافية التي كتبها الناقد عن عبد الوهاب سابقاً.
وقد ارتأى جمعها، وإضافة الكثير إليها ضمن كتاب، لإدراكه الأهمية الكبرى للموسيقى العربية في القرن العشرين. موسيقى كانت «جزءاً من الثقافة العربية الرفيعة عامّة» في ذلك الوقت. لا شكّ في أنّ أهمية الكتاب تغدو مضاعفة اليوم، في ظلّ ما وصلناه من انحطاط في الذائقة العامة نتيجة انحطاط المستوى الفني والثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي. تعود علاقة سحاب بعبد الوهاب إلى زمن بعيد؛ بدأ منذ كان طفلاً بالاستماع إلى أغانيه وألحانه عبر الأسطوانات التي يملكها والده في منزلهم في يافا (حيث ولادته وطفولته)، ولاحقاً، عبر «إذاعة القاهرة» التي سترافقه حين يرحل مع عائلته إلى عمان، ومنها إلى بيروت، ليشعر عندئذ بانتمائه العروبي. ارتأى أن يضمّن كتابه جزءاً من لقاءاته الشخصية مع عبد الوهاب الزاخرة بمواقف وأحاديث ومعلومات لا تضيء على جوانب غاية في الأهميّة في شخصية الرجل فحسب، بل تفسّر الأثر الكبير لموسيقار الأجيال في الحركة الثقافية العربية، وكذلك في الذائقة والوجدان العربيين.
نفهم سرّ عشقه لمقام البياتي وندرة استخدامه مقام الصبا

كما أنّها تجعل القارئ على تماس مباشر مع الآلية المبدعة التي انتهجها عبد الوهاب في عمله حتّى تمكّن من اجتراح هذا الكم الهائل من الألحان التي تعتبر امتداداً أصيلاً لتراث موسيقي غني. استفاد من كلّ من سبقوه في مجال الموسيقى، مضيفاً إليه خبرته المكتسبة من المشايخ (المنشدين)، ممن تتلمذ على أيديهم أو من عاصرهم وفتن بأدائهم، ليبدأ بتكريس ذلك كلّه في محاولات دائمة لنقل الموسيقى العربيّة إلى آفاق حداثوية أفادت كلّ من أتى بعده. ورغم وجود بعض الحوادث التي تشبع لدى القارئ رغبة التلصّص على خفايا من كان لعقود طويلة، أحد ألمع النجوم العرب، إلّا أنّ سحاب صاغ كتابه كأنّه يبتغي أن يرافق القارئ في رحلة إلى رأس عبد الوهاب.
يعرفنا إلى طريقة تفكيره في الحياة، كما في الموسيقى، والمراحل التي كانت تقطعها الجمل الموسيقية في رأسه ووجدانه قبل أن تتحوّل إلى الألحان التي ما زال المستمع العربي (الأصيل) يطرب إليها حتى اليوم.
نعرف مثلاً السبب الذي جعل مقام البياتي أحد أقرب المقامات الموسيقية إليه، كما نفهم سرّ ندرة استخدامه لمقام الصبا.
وكذلك، يشرح سحاب بدقّة مراحل التطور التي عاشتها موسيقى (وغناء) عبد الوهاب منذ بداياته في عشرينات القرن الماضي حتّى وفاته (1991). يشرح سبب اعتزاله الغناء الحي على المسرح: «توقف منذ عام 1939 عن أداء الحفلات الحية على المسرح، لأنه أصرّ على أن لا يتوقف عند الطرب الآني المباشر كما في الحفلات الحيّة، بل أن يتجاوز ذلك إلى تضمين الطرب في إطار الفكر الموسيقي والغنائي الخلاق». يؤكّد سحاب أنّه كان دائم التجدّد، حتّى أنّه «كان يلقي وراء ظهره كل ألحانه السابقة، مهما كانت كبيرة وأساسية في تاريخ مجده الفني، ويحيط بكل مشاعره وشغفه وإعجابه آخر ألحانه حتى لو كان أقل شأناً من أعماله السابقة».
وهي نافذة مهمّة ليفهم القارئ سرّ استمراريّة عطاء عبد الوهاب حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
يعدّ كتاب «مع محمد عبد الوهاب» خطوة في مشروع كبير بدأه الكاتب والناقد الموسيقي الياس سحاب في محاولة لأرشفة تراثٍ موسيقي عربي مهم وللإضاءة على دور هذا الإرث في حركة الثقافة العربية، وضرورته كركن أساسي في بناء الحضارة التي يبدو أنّ مسافةً شاسعةً باتت تفصلنا عنها اليوم. وكان سحاب قد أنشأ، لهذا الغرض، مع مجموعة من الأصدقاء الذين يشاركونه هواجسه، دار «موسيقى الشرق» التي أصدرت موسوعة عن أم كلثوم (ثلاثة أجزاء).
كما انتهت من إعداد موسوعة عن محمد عبد الوهاب (لم ترَ النور حتى الآن). بذلك، يحاول سحاب المحافظة على جهود من عملوا حقّاً على تشكيل ذائقتنا ووعينا، وإعادة تعريفنا بآليّات خلق الإبداع الحقيقي، لمن أراد فعلاً أن يصنع فنّاً أو أدباً يكون جزءاً من بناء الحضارة التي ينتظرها سحاب.