هي دراما بأكثر ما تتسم به الحميمية. ينسج الأخوان داردين تفاصيلها ببراعة في «يومان وليلة» عن قصة ساندرا الموظفة التي تصاب باكتئاب يلزمها المنزل فيتناوب زملاؤها في الشركة على العمل لساعات إضافية. وحين يستنتج المدير أنه يمكن الاستغناء عنها، يطلب منهم الاختيار بين عودتها أو الحصول على علاوة مالية قيمتها 1000 يورو. تصوت الغالبية للحصول على العلاوة مقابل طرد ساندرا باستثناء ثلاثة من زملائها المقربين. مهددة بالبطالة بينما لا تزال تناضل للخروج من انهيارها العصبي، تجد ساندرا (ماريون كوتيار) نفسها متنازعة بين الاستسلام لاكتئابها أو النضال لاسترجاع عملها ومواجهة هؤلاء الزملاء الذين لا يعترفون حتى بوجودها كما تقول لزوجها في أحد المقاطع. المعضلة التي يطرحها الأخوان داردين بسيطة، وساخرة ومآسوية في آونة واحدة. بتشجيع من زوجها مانو (فابريزيو رونجيوني)، تقرر ساندرا زيارة زملائها لإقناعهم بإعادة التصويت لمصلحتها بعدما أقنعت المدير بإعطائها فرصة أخيرة بمساعدة من صديقتها.
من بيت إلى آخر، تجول ساندرا بصحبة حبوب «الكزاناكس» المهدئة التي لا تفارقها، عارضة على زملائها أن يختاروها بدلاً من الـ 1000 يورو. بقدر ما قد يبدو ذلك سوريالياً، يعبر معظمهم عن تعاطفهم معها لكن عن حاجتهم للمال لأمور حياتية مختلفة كإرسال الأولاد إلى الجامعة أو حتى إصلاح الشرفة، حتى أنّ زوجين ينفصلان بسببها حين تقرر زميلة ساندرا التخلي عن العلاوة رغم معارضة زوجها. أثناء كل ذلك، يرسم الأخوان داردين بمهارة بورتريه بارداً وقاسياً عن العلاقات الإنسانية في العصر الحديث. علاقات ترزح تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والفردية، وتقوقع الأنا داخل الانعزالية التامة التي لا تسمح بتواصل فعلي أو تعاطف مع الآخر خارج دائرة العائلة الصغيرة أو المصالح المشتركة. لكنها ليست نظرة سوداوية تماماً، بل هي تشريحية وتفصيلية، ترصد بمهارة حقل المشاعر الإنسانية المتضاربة من دون فرض وجهة نظر معينة أو محاكمة الشخصيات والأحداث. لعل هذا أكثر ما يميز أعمال الأخوين داردين عن المخرجين المهتمين بالقضايا الاجتماعية. لسنا في صدد صراع تقليدي بين الخير والشر. زملاء ساندرا هم مثلها متنازعون بين حاجتهم إلى المال وتعاطفهم معها. هي تشعر بالذنب أيضاً لحرمانهم من العلاوة، لكنها تكرّر في الفيلم: «لست أنا من قرر ذلك». لكن لا أحد يعرف فعلياً من هو صاحب القرار، حتى المدير نفسه يبدو مرغماً على اتخاذه. الكل تائه ضمن هذه المنظومة، لكن لا أحد يشكك فيها أو يرفضها باستثناء ساندرا التي ترفض في النهاية استرداد عملها مقابل طرد شخص آخر. والغريب أنه يكفي أن تحضر ساندرا حتى يتراجع بعض زملائها فوراً عن قراره، كأنه يراها أو يكتشف وجودها للمرة الأولى، مع أن بعضهم يعمل معها منذ سنوات. أبعد من النظام الاقتصادي، ما ينتقده الأخوان داردين هو المنظومة الاجتماعية المبنية على الإلغاء، ومواجهة ساندرا لزملائها تخلق ثورة صغيرة كأنها تطلب منهم اعترافاً بوجودها. بعضهم يرحّب بهذا الأمر كأنما هو معجزة في هذا العالم البارد والمنغلق على نفسه، في حين يرفضه آخرون بعنف كأنه جريمة. الحوارات بجملها المتكررة عن قصد تعبّر عن التفاعل الآلي حيث اللغة تكرس المعنى المفقود كما عندما تعيد ساندرا طلب دعم زملائها بالطريقة نفسها، وتتلقّى الرد نفسه كل مرة: «أرجو ألا تستائي مني» وهي تجيب: «أتفهم» باستثناء أحد زملائها الذي يجهش بالبكاء حين يراها كأنما يتنتظر أي فرصة للتعبير عن نفسه وتضطر هي المنهارة لمواساته. تأخذنا اللغة السينمائية بحميميتها والكاميرا التي ترصد عن قرب تعابير الشخصيات، إلى عالم شديد الخصوصية رغم بساطة القصة وأبطالها الاعتياديين الذين قد يشبهون أياً كان. وفي اللقطات البعيدة، ترصد الكاميرا هلع ساندرا كأنما المشهد سيطبق عليها. ويضاف إلى ذلك، الأداء المؤثر لماريون كوتيار التي تنجح في نقل حالة القلق التي تعيشها هذه الشخصية وجهودها الحثيثة لاستجماع شجاعتها التي تجسدها في أدق التفاصيل من تعابير وجهها المتشنجة إلى مشيتها المتعثرة وانحناءة رأسها.

* «يومان وليلة» للأخوين داردين: «متروبولييس أمبير صوفيل» (الأشرفيةـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080