ليس غريباً أن يعود الأخوان جان بيار ولوك داردين إلى الطبقة العاملة في فيلمهما الجديد «يومان وليلة» (2014) المعروض حالياً في «متروبوليس أمبير صوفيل». السينمائيان البلجيكيان آتيان من منشأ فقير. بلدة صغيرة متخمة بالعوز والبطالة ومناجم الفحم (مكان أحداث كل أفلامهما). لطالما أثار واقع العمالة في القارة العجوز اهتمامهما. ليست أوروبا الحلم التي يموت «عيال الله» في سبيل لمس يابستها. ليست أرض الأناقة والعمارة ورفاهية الفرد الذي يمتلك تأميناً صحيّاً وابناً موهوباً. إنّها بلاد الرأسمالية المتوحشة التي تسحق المهمّشين والعمّال والمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين. الـ «داردينز» من علامات نادي «سينمائيون كبار غير أكاديميين»، ومن «شعب «كان» المختار» الذي يزيّن أفراده رفوفهم بسعفتين، كما كوبولا وهانيكي وكوستوريتسا...
جان بيار دارس للتمثيل، فيما لوك آت من الفلسفة. اجتماعهما بالمخرج أرماد غاتي والسينماتوغرافي نيد بورجيس أنضج قرارهما بالإبحار السينمائي. في البدايات الوثائقية والروائية، تركيز على جرائم النازية والمقاومة البلجيكية للاحتلال الهتلري. قضايا كبيرة تنتصر للإنسان وتقف ضد جانبه المظلم. في منتصف التسعينيات، حملا الهمّ الاجتماعي، ولم يمانعا بداية الشهرة إثر شريطهما «الوعد» (1996). المهاجرون إلى بلجيكا لم يظهروا يوماً بهذه الواقعية والبؤس والانتهاك، مع أنّ عبارة «بلجيكا بلد جميل» تتردد في الفيلم بكل سلاسة. ابن يتعرّض للتشويه على يد والده، الذي لا يتورّع عن فعل شيء من أجل حفنة من المال. الأخوان ضربا ثانيةً في «روزيتا» (1999)، ليمنحهما الكندي ديفيد كروننبرغ السعفة الأولى. نحن بصدد فتاة صغيرة لا تريد سوى الحصول على عمل، وعيش حياة طبيعية مع أمّها المدمنة على الكحول، بعيداً من مخيم الفقر والذل. في «الابن» (2002)، نرافق الأب في لقائه الجحيمي بقاتل ابنه فيما يعلّمه النجارة. أداء مدهش لأوليفييه غورميه جلب له جائزة أفضل ممثل في «مهرجان كان». الـ «درادينز» واصلا مانفيستو البؤس في «الطفل» (2005). العسف والقهر لا يجعلان بيع الابن فكرة سيئة، إضافةً إلى قذارات أخرى. أمير كوستوريتسا لم يتمكّن من تجاهل الشريط، فمنح الأخوين سعفتهما الثانية. نعود إلى خفايا عالم المهاجرين وحلم جواز السفر الأوروبي في «صمت لورنا» (2008)،
«يا عمّال العالم اتحدوا»
نضال يساري يقذف بنا إلى إلى
كين لوتش التسعينيات


لنرافق «صبي الدراجة» (2011) بعد تخلّي الأب عنه بدم بارد. أفخاخ أخلاقيّة ينصبها الأخوان لأهل القاع والعالم السفلي، ليس أقلّها اضطرار المقهور والمنتهك للتعامل مع سبب كوابيسه. بشر من لحم ودم يرميهم الكبيران في وجوهنا من دون تمهيد أو كليشيهات أو رجوع إلى الماضي.
في «يومان وليلة»، نقفز إلى آثار الكساد الاقتصادي الذي سحق كثيرين. ساندرا (ماريون كوتيار) تكافح للاحتفاظ بوظيفتها في معمل ألواح الطاقة الشمسيّة. عليها إقناع زملائها بالتصويت لبقائها بينهم، مقابل التخلّي عن مكافأة قدرها ألف يورو لكل منهم. عطلة نهاية الأسبوع هي الوقت المتاح لإطلاق الثورة العمّالية الصغيرة. سباق مع الزمن يضع المبادئ والقيم على المحك، ويختبر مفهوم «التضامن» اليوم. هل أتت الرأسمالية على كل الرصيد الأخلاقي في هذا العالم؟ سؤال خفي تطرحه ساندرا في سعيها إلى تحقيق شعار «يا عمّال العالم اتحدوا». هذا النضال اليساري يقذف بنا إلى كين لوتش التسعينيات مع عناوين مثل «الأجندة الخفية» و«رف – راف». السينمائي البريطاني أحد مرجعيات الأخوين الواضحة. إذاً، ساندرا غاضبة، مكتئبة، تشعر أنّها «نكرة» في هذه المفرمة. تشبه «روزيتا» في الخراب النفسي وقلّة الثقة بالذات وبالآخرين، إلا أنّها ليست معدمةً، ومحيطها العائلي داعم لها. حافة الفقر مخيفة بقدر الكارثة نفسها. زوجها مانو (فابريزيو رونجيوني) عامل أيضاً. يفعل ما بوسعه لدفع زوجته إلى الأمام في لحظات اليأس. علاقتهما ليست على ما يرام أصلاً. كالعادة، لا يحاكم الأخوان شخوصهما. من يوافق على بقاء ساندرا، قد لا يكون أفضل ممَن يتمسّك بالمكافأة. لكل مسوّغاته ودوافعه المبرّرة. ثمّة تعريج على حال المهاجرين أيضاً خلال الرحلة. لا بدّ من بعض صحوات الضمير والارتداد الإيجابي كما في أفلامهما السابقة، التي خلص بعضها إلى التطهير والخلاص. إيغور في «الوعد» يحاول التكفير عن فعلته مع أبيه. «روزيتا» تندم على وسيلة حصولها على العمل. برونو يدفع الثمن طواعيةً في «الطفل». لورنا تلجأ إلى الوهم حزناً على كلاودي في «صمت لورنا». حتى الصغير سيريل يفضّل العيش مع سامانثا بعد صدمته بقرار أبيه في «صبي الدراجة». نعم، التفكك الأسري والتهتّك الاجتماعي (الأب/ الابن) إحدى تيمات الـ «داردينز» المفضّلة. الصغار يتمرّدون على انقياد ووسخ البالغين. هنا، يشير الأخوان بيأس إلى من تمكّنت الدوامة من ابتلاعهم، مع أمل بجيل قادم يقرّر إعادة الأمور إلى نصابها.
بالعودة إلى «يومان وليلة»، يورّطنا السيناريو ضمن تحوّلات ساندرا النفسية والجسديّة. الفعل الفيزيائي والشغل اليدوي الشاق مرافق للسايكولوجي، وانعكاس منه وإليه. هذا حاضر على امتداد الفيلموغرافيا كذلك. التقلّب يوصلها بنجاح إلى مفارقة: «هزمتُ لكنّني سعيدة». يكفي أنّ الكيمياء عادت مع زوجها. في السيرورة، ساندرا تمشي وتستخدم المواصلات بكثرة، كما بقيّة أبطال عملاقي سينما المؤلف. درّاجة سيريل في «صبي الدراجة» فيها شيء من «سائق الدرّاجة» (1948) للإيطالي فيتوريو دي سيكا. رائد الواقعية الإيطالية مع روسليني (روما مدينة مفتوحة ـــ 1945) وفيسكونتي (الأرض تهتز – 1948) من ملهمي جان بيار ولوك، اللذين صمدا في خندق المينمالية والتقشف والأماكن الحقيقية وحسن إدارة الممثل المحترف وغير المحترف. كل ذلك يضفي انطباعاً تسجيلياً مدهشاً عند مشاهدة أحد أفلامهما. «يومان وليلة» درس في الأداء والـ «ون شوت». كوتيار تجترح أهم أداءاتها أمام الكاميرا من دون نيل الجائزة من لجنة جاين كامبيون في «مهرجان كان» الأخير. النجمة الفرنسيّة تبدو متماهية حتى التوحد مع شخصيتها، وساحرةً في الانسلاخ عن جلدها واللعب النفسي والجسدي. الكاميرا تلاحق البطل، وإن بحدّة أقل من أفلام سابقة مثل «الوعد» و«الابن». أوليفييه غورميه حاضر كالمعتاد. هو واحد من ثلاثي التمثيل المفضل في مسيرة الأخوين مع جيريمي رينيه وفابريزيو رونجيوني، إضافةً إلى الواقفين أمام الكاميرا للمرّة الأولى. في تقليد معتاد، السينماتوغرافيا مرصودة بالكاميرا المحمولة، ومرسومة بالحدّ الأدنى من الأدوات. تستمدّ سحرها من الضوء الطبيعي والتشكيل المتقن. شريط الصوت يكتفي بالجوّ العام من دون موسيقى مؤلّفة. مع ذلك، «يومان وليلة» ليس أفضل عناوين الأخوين على مستوى التأزيم والحدّة وإحكام الدراما.
السؤال الآن: ماذا بعد؟ طبيعياً، سيعود جان بيار ولوك درادين عام 2017 (فيلم كل ثلاث سنوات) بشريط مينيمالي محكم، يبصق في وجه الوصفات الجاهزة ووجبات هوليوود السريعة.