إذا اشتقت إلى مازن كرباج، المتخفّي، أو المتلاشي، أو المنفيّ، في صقيع برلين حاليّاً… فعليك بكتابه ـــ الطوطم الصادر عن «دار تاميراس»، بعنوان: «يوميّات عام لا يختلف عن سواه». كتب الكوميكس والرسوم (والمجلات)، غزيرة آخر هذا العام في بيروت، والخيارات كثيرة بين الهدايا القيّمة: زينة أبي راشد ولميا زيادة، «السمندل» و«قنبز»… لكن «الكرباج» هديّة نموذجيّة يمكن أن تقدّمها إلى من تحبّ ومن تكره على حدّ سواء. الصنف الأوّل (من تحبّ) يجب أن يكون مرفّهاً، مثقفاً، منفتحاً، قادراً على التقاط أدنى التفاصيل في عالم مازن البصريّ الهاذي الذي يشبه قطع الـ «ليغو» المبعثرة… الصنف الثاني (من تكره) ينبغي أن يكون محافظاً، كلاسيكيّاً، باحثاً عن التناغم المطلق، رافضاً لكل أشكال الاستطراد والتجريب والجرأة الفكرية والبصريّة. في هذه الحالة قد تنفع الصدمة في خلخلة البنى الذهنية والذوقيّة القديمة. لأن مازن كرباج الموسيقي التجريبي، والرسّام التخريبي، الذي يعتاش على مراقبة حياته وحياة العالم، هو مشاغب باب أوّل. يكسّر الخطوط، ويضرب التناغمات، ويشوّش على الأفكار الجاهزة، ويضحك من المحظورات، وينظر إلى الأحداث بعيون طفل يتشيطن. كل ذلك واضح في رسومه عموماً، وفي كل صفحة من صفحات هذه المفكّرة «الشريرة» التي رسم عليها يوميّاته الوجوديّة وتأملاته الميتافيزيقيّة، لكن أمانة، لا تلفتوا نظر «الأبونا المطاوع» إلى «يوميّات عام لا يختلف عن سواه»، لأنّه سيصاب بنوبات غضب، تنتج عنها هزّات عنيفة، وقد يجد في النهاية قاضياً ينظر مثله إلى العالم بماسورة القرون الوسطى، فيحكم على الشاب الطائش بـ ٣٠ مليون، أو يضطرّه إلى طلب اللجوء السياسي في جمهوريّة «فايمار».إنّها أجندة رسوم بالمعنى الحرفي للكلمة: مفكرة مكتب من القطع الوسط، لازمته طوال السنة. كل يوم (مع زعبرات استلحاقيّة كثيرة) كان يرسم على صفحة أو صفحتين متواجهتين لوحة أو اسكتشاً أو مربعات متسلسلة. أجندة مازن كرباج تؤرّخ لسنة خلت، تشبه السنوات السابقة واللاحقة… لذلك لا تترددوا في تطبيق نبوءاته السرديّة على أي عام مضى من حياتكم، أو آخر لم يأت بعد. ستطلقون ضحكات هستيرية، أو تتنهّدون بأسى، أو تحلمون أو تستعيدون أعمالاً وأحداثاً، أو تطرقون متأملين في الحلقة المفقودة… ما هذا الفن العصابي؟ تكعيبي أو تفكيكي أو حديث… أو مستعص على التصنيف؟ هو لا يشبه بالتأكيد ما درجنا عليه في الصحف اللبنانية منذ أجيال. في إحدى الرسمات يقف الكرباج غاضباً في أحد أجنحة «فن أبوظي»، وينتهر المشرفة على الغاليري: «ما هذه الفضيحة؟ من هذا الذي يقلّدني؟ أنزلوا هذه اللوحة فوراً». وترد عليه السيدة: «إنّها لوحة لبابلو بيكاسو»! المؤكّد أن «اليوميّات» عمل ذاتي وحميم وصادق، وعفوي كما هي الحياة. يرسم مازن كما يعيش. لذا ليس مستغرباً أن تصابوا بالدوار، أو النشوة، أو الاحباط، أو ربّما اعتراكم الأمل. ففي أعماق هذا اليأس الكثيف حب للحياة، وأمل بالمستقبل. وحدها السخرية سلاح العادلين. صرخة سياسيّة وفلسفيّة وجماليّة. نقد غير مفتعل للتقاليد، تمجيد للذكاء وخفّة الظل والبلاغة. كل ذلك من العلامات الفارقة لهذا الكتاب.
ولن نبوح بحقيقة مزعجة، إذا كشفنا أن مازن كرباج ليس إلا فناناً مشبوهاً يتلاعب بنا وبالزمن، ويخدعنا بلطف. فيرسم موت رافي شنكر قبل الموعد بثلاثة أيّام، وخانق ستيف جوبز بعد موته، ويتنبّأ بأن الرئيس هولاند سيكون مهرّجاً عظيماً، وربّما وجدنا بين يوميّاته المرسومة بالكلمات والخطوط والألوان والتكوينات والتركيبات البصريّة المختلفة ما يذكرنا بأشياء، بأفكار، بأماكن، بأسماء وبوجوه نحبّها. ليس مازن كرباج إلا «كشتبنجياً» يستعملنا جميعاً ليروي قصصه، نحن سكان هذا الكوكب، والمشاهير، وأصدقاؤه وأهله وعائلته وقراؤه. يضاف إلينا وجهه المطاول الذي يحتل كل الرسوم، ويظهر في كل الحالات. استمتع إذاً عزيزي القارئ (يجوز المؤنث على كل ما تقدّم). عليك فقط الاستسلام لفيض الحكايات والتعليقات والجمل التقريرية السردية (بالفرنسية غالباً للأسف) واللطخات والتشكلات والصور، أن تترك نفسك تلهث خلف فنان «فائق النشاط» Hyperactive يبعثر المَشاهد الهائجة تاركاً لنا أن نعود فنجمعها في لوحة ملحميّة. لوحة ليست إلا حياة مازن كرباج «العاديّة جداً» ـــ أو هذا ما يشبّه إلينا ـــ كما هي سنَتُه الماضية. العام المقبل مع مازن كرباج؟