لا تعني تلك الصرخة أو الرسالة المباشرة التي ينتهي بها الشريط أن الفيلم ساذج أو ضعيف المستوى. في الواقع، نجح المخرج حسين كمال إلى حد كبير ـــ عن سيناريو وحوار ممدوح الليثي ـــ في نقل أجواء الرواية العابثة، المسطولة، المضطربة إلى شاشة السينما.
ورغم هذا «النقل»، فقد صنع الفيلم شخصيته المستقلة ومشاهده المميزة، على رأسها المشهد الشهير والطويل لعماد حمدي، ماشياً في شوارع وسط القاهرة يحدّث نفسه مسطولاً. مشهد يفتتح الفيلم الذي ينتهي بحمدي أيضاً بعدما «أفاق» على إثر حادثة القتل الخطأ لفلاحة بسيطة كانت تعبر الطريق، فصدمتها سيارة المثقفين السكارى. يقول الموظف أنيس: «الفلاحة ماتت ولازم نسلّم نفسنا»... فيحولها المساطيل إلى أغنية بالكلمات نفسها على إيقاع السكر والرقص والتصفيق. بالطبع، ليس في الرواية هذه التحولات الدراماتيكية لأي من الشخصيات، ولهذا قيل إنّها كانت تتنبأ بنكسة 67 الناتجة عن عدم «إفاقة» النخبة من أوهام الانتصار والصمود. أما الفيلم الذي صنع بعد النكسة بسنوات، والأهم بعد وفاة عبد الناصر نفسه بعام واحد، فكان له أن يقدم هذه الحكمة الرمزية بأثر رجعيّ. وفي عام 2009، بعد ما يقارب 40 عاماً من إنتاج الفيلم، انتشرت أغنية للفنانة هيفا وهبي بعنوان «رجب حوش صاحبك عني». كثير من صغار السن الذين استمعوا إلى هذه الأغنية لم يعلموا أنّها في الأصل عبارة من فيلم «ثرثرة فوق النيل»، حين تشكو مدام سنية (نعمت مختار) بشيء من الدلال تحرّش الناقد علي (عادل أدهم) بها، فتشكوه إلى صديقه النجم السينمائي رجب القاضي (أحمد رمزي)، قائلة: «رجب حوش صاحبك عني يا رجب».
نجيب محفوظ «الموظف
الملتزم» صوّر عالم الليل والحشيش بمهارة
على أي حال، فذلك الدلال «المسفّ» في الفيلم تحول إلى أغنية ناجحة بعدها بأربعين عاماً، ولا بأس، فحتى الأغنية التي قدمها الفيلم كرمز للإسفاف أغنية «الطشت قالّي» (عايدة الشاعر)، قد حققت بدورها نجاحاً كبيراً آنذاك. أما رجب (أحمد رمزي) فقد شارك في أغنية «الطشت» مرتدياً ثوباً نسائياً على سبيل الإمعان في تصوير الإسفاف. ولتمييز المشهد، كان هو المشهد الوحيد الذي صوّره حسين كمال بالألوان الطبيعية، على خلاف بقية الشريط الذي كان كله بالأبيض والأسود.
يبقى أن أبرز ما في الفيلم، هو استطاعة الحوار صنع الكثير من «الإفيهات» التي تنتمي بمهارة إلى نوع خفة الظل الخاص بالمساطيل. وإن كان تصوير عالم الليل ليس غريباً على صناع السينما، فإن المدهش هو استطاعة نجيب محفوظ «ذلك الموظف الملتزم» تصوير عالم الليل والحشيش بهذه المهارة والواقعية وخفة الظل، ولكن لا غرابة، فلقب «عميد الرواية» لم يأت من فراغ.
«ثرثرة فوق النيل» لحسين كمال: 18:30 مساء اليوم ـــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 76/309363