أحميدة عياشي* غادرت سيدي بلعبّاس منذ أكثر من 30 سنة. وقتها حصلت على شهادة البكالوريا، حملت حقيبتي المكدّسة بالكتب، وتوجهت إلى الجزائر العاصمة. وصلت وأنا أكاد أختنق في تلك الحافلة الخضراء إلى رويسو، حيث الحي الجامعي «رقوال». ارتميتُ على السرير الحديدي وغرقت في سبات عميق. في المساء، عندما فتحت عينيّ، شعرت بالجوع وبشوق غريب إلى تلك المقاهي، مقاهي سيدي بلعباس حيث جلست لأول مرة مع كاتب ياسين. كان يرتدي «جاكيت» حمراء وسوداء، ويدخن بعمق وهدوء، ويضع على رأسه مظلاً أصفر، ويشرب الشاي المنعنع وهو يصغي إلينا، نحن الشبان الثلاثة سعدان بريك، بشير عثمان وأنا، الذين كنّا نحلم أن نكون كتّاباً وشعراء وممثّلين!
ما الذي بقي من ذلك الزمن الأشبه بالحلم! ها أنا أعود إلى سيدي بلعبّاس. أبحث من جديد عن ظل كاتب ياسين. لكن أين أجد هذا الظل؟! اختفت الدروب الوعرة، واختفت الغدران والسواقي، وحلّت محل البيوت القديمة ذات القراميد الحمراء، البنايات المتجهّمة والعمارات المتزاحمة والفيلات الباذخة المتغطرسة. تغيّرت أسماء الشوارع، وتحوّلت كلها إلى أسماء جديدة، قيل لي إنها أسماء للشهداء. لكن هؤلاء الشهداء لا يعرفهم أحد.
حتى بيتنا تغيّر، لم يعد عامراً وصاخباً مثلما كان عليه في الأيام الخوالي. سألتني والدتي عن زيارتي المفاجئة. ماذا أقول لها يا إلهي؟! هل أقول لها جئت أبحث عن ظل كاتب ياسين. عمّا بقي من هذا الكاتب الملعون الذي تعلّمت منه كيف يمكن أن نحبّ الحياة ونحياها بعيداً عن الأقنعة؟
آلو حسان، أنا هنا في سيدي بلعبّاس. حسان عسوس يدير حالياً «المسرح الجهوي لسيدي بلعباس»، تعرّفت إليه في نهاية السبعينيات عندما جاء مع كاتب ياسين، إلى سيدي بلعباس. مثّل في كل مسرحيات كاتب ياسين. بعد نصف ساعة، كنتُ برفقة حسان. قلت له إنّني هنا لأبحث مجدداً عن كاتب. رحنا نجوب شوارع سيدي بلعبّاس ونتكلم عن كاتب. عن ذلك الشاعر البوهيمي الذي تقاسمناه مثلما تقاسم هو ورفاقه «نجمة». ها أنا أقف أمام «مقهى الاتحاد»، حيث التقيت لأول مرة كاتب. في هذا المقهى، تناولنا الشاي مع كاتب. صديقي سعدان الذي أصبح فيما بعد أستاذاً جامعياً، وكان يحلم بأن يكون شاعراً. وبشير عثمان الذي كان يحلم بأن يكون كاتباً وفيلسوفاً. سألناه عن «نجمة»، لكنه راح يحدّثنا عن المسرح والشعب. تحدثنا كثيراً واستمع إلينا كثيراً. في ذلك الوقت، كنّا نشرف على مجلة أدبية في ثانويتنا، «سي الحواس»، فعرضنا عليه أن يأتي إلى الثانوية ليحدّثنا عن «نجمة». لكنه شجّعنا أن نأتي لنشاهد مسرحية «فلسطين المخدوعة». ذهبنا إلى مدير الثانوية، وقلنا له إنّ كاتب ياسين مستعد ليدعونا، نحن تلاميذ الثانوية، إلى المسرح. لكن المدير، وهو متخرّج من مدرسة العلوم في القاهرة، لم يكن متحمّساً. قال لنا إنّ «فرعون شيوعي». فحاولنا أن نصحّح: «لا. ليس فرعون. فمولود فرعون مات. إنه كاتب ياسين صاحب «نجمة»». عندئذ قال لنا: «أعرف. أعرف، أقصد كاتب ياسين. إنه لا يحبّ العرب المسلمين». شعرنا بالحزن. لكن سرعان ما تراجع المدير عن حكمه. وسمح لكل الثانوية بمشاهدة عرض «فلسطين المخدوعة» في المسرح. كان ذلك اليوم مشهوداً. كان مسرحاً جديداً لنا. مسرح مليء بالألوان والأصوات والحياة. في ذلك اليوم، وقعتُ في حب شيء، اسمه مسرح كاتب ياسين. أنظر إلى «مقهى الاتحاد». لم يعد هناك مقهى. حلّ محله «بنك الخليج». أنظر إلى حسان، هل يدري ما يجول في أعماقي؟! كان حسان يتحدث عن إعداده لعرضه الجديد «الجثة المطوقة» نص كاتب ياسين. قال لي «نكاد ننتهي من ترجمة «الجثة المطوقة»» التي يقوم بإعدادها يوسف ميلة». وأضاف حسان، الذي سيقوم بإخراج العرض، «سأقدم كاتب بنظرة جديدة. نظرة منفتحة على كل ما هو عميق فينا. يبقى كاتباً متجدداً، ومثيراً للأسئلة المرتبطة بوضعنا التراجيدي. تراجيديا غنّاءة، حيّة وخلاقة للحياة من جديد».
تركت حسان لنلتقي في اليوم التالي. ورحت أتجوّل وحيداً في سيدي بلعبّاس. كنت كمن يريد استعادة الوجه الخفي الذي توارى خلف أقنعة المدينة الجديدة. وقفت طويلاً أمام باب ثانويتي القديمة «سي الحواس»، ثم مررت بسينما «الأولمبيا» التي أصبحت مجرد أطلال. كنت أنظر إلى المباني الكولونيالية القديمة، كانت صامتة وغريبة. عندها، رحت أتذكر ذلك الشتات من الصور، وومضات كنت أحاول من خلالها استحضار كاتب في لحظة وحدتي، وعودتي إلى سيدي بلعبّاس.

(*) روائي ومسرحي وصحافي جزائري من الرفاق القدامى لكاتب ياسين