زياد عبد اللهسؤال واحد يؤرّق هولدن كولفيلد في «الحارس في حقل الشوفان»: أين تذهب البطّات عندما تتجمد بحيرة «سنترل بارك» في نيويورك؟ يراوده هذا السؤال وهو يستمع إلى أستاذ التاريخ يقرأ ما كتبه كولفيلد على ورقة الامتحان «لا يهمني إذا جعلتني أرسب، بما أني أرسب في كل شيء ما عدا اللغة الإنكليزية». يسأل كولفيلد عن البطّات سائقي التاكسي في نيويورك التي يقصدها بعدما طرد من مدرسته. السائق الأول يحسبه مجنوناً، والثاني يحدثه عن السمكات. إنها المدرسة الرابعة التي يُطرد منها، وأمامه ثلاثة أيام سيبددها قبل أن تصل رسالة طرده إلى والديه.
إنها مساحة الحرية المقدسة خارج أسوار المدرسة. المشاعر المفرطة لمن يخرج من سجن أو مدرسة، وهو يعاين العالم بعينين شرهتين. يكتب سالينجر كأنه يؤسس جمهورية حنين دائم إلى التمرد، إلى ما يسقط من الإنسان وهو يفارق مراهقته، أو حين يتخلّى عن كونه مجرد «حارس في حقل الشوفان» ويصير لاعباً رئيساً يسعى إلى تسجيل النقاط.
رواية سردية كبرى لأعماق المتمرّد
هذا التمرد يأتي متناغماً مع حساسية مأزومة وعمق يأتي على إيقاع سرد مترقرق. ستكون اللغة طيّعة، إنها لغة مَن هو في الـ16 من عمره. «أنا أكبر كذّاب قابلته في حياتَك. شيء فظيع. حتى إذا كنتُ متوجهاً إلى الدكان لأبتاع صحيفة وسألني أحدهم إلى أين أنا ذاهب، فمن الممكن أن أقول أنا ذاهب إلى دار الأوبرا»، نزق كولفيلد، رؤيته للعالم، ثم تلك المقاطع التي لا تنسى وهو يستعيد ما تقدم بسرد مدهش «مضيت باتجاه النافذة، فتحتها، وأخذت أكوِّر كرة ثلج بيديّ العاريتين. كان الثلج مطواعاً. لم أقذف به على أي شي، رغم أنني فكرت بأن أرميها على سيارة كانت متوقفة في الشارع، لكني غيَّرت رأيي. بدت السيارة لطيفة وبيضاء. في النهاية، لم أرمها على أي شي، كل ما فعلته أني أوصدت النافذة ورحت أتجول في الغرفة والكرة في يدي. بعد قليل، وقد كانت لا تزال الكرة في يدي بينما كنت أصعد الباص مع بروسارد وأكلي. فتح الباب السائق وجعلني أرميها خارجاً. أخبرته بأني لن أرميها على أحد، لكنّه لم يصدقني. الناس لا يصدقونني أبداً».
ستكون حيرة كولفيلد وضياعه في نيويورك معبراً لاستعادة كل ما يتبادر إلى ذاكرته. سيحدثنا عن كل شيء. سيدعو عاهرة ليبادلها الحديث، فالجنس أمر لا يفهمه، وعلاقته بالفتيات يلخصها كالآتي «عندما تكون على مقربة من أن تفعلها مع فتاة، فإنها تواصل ترديد توقف توقف. مشكلتي أني أتوقف. بينما جميع الفتية يواصلون... المشكلة أني أشعر بالأسف اتجاههن». ليست رواية سالينجر إنجيلاً للتمرد بقدر ما هي سردية كبرى لأعماق المتمرد بوصف التمرد استجابة لحساسية مفرطة يجسدها كولفيلد، حيث المدرسة مجاز لما صيغت عليه الحياة وستضيق بمَن هو مثله.