كتاب رينيه جيرار «العنف والمقدّس» الذي يُعدّ تعميقاً لنظريّته في كتاب «الكذبة الرومنسية»، يدخل المكتبة العربية أخيراً (المنظمة العربية للترجمة). «كبش الفداء»، بالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي، هو أساس الممارسة الدينية
ريتا فرج
لو قُدِّر لجان جاك روسو قراءة أطروحة رينيه جيرار «العنف والمقدّس» التي صدرت عام 1972، لأسقَط نظريّته القائلة بالطبيعة الفطرية الخيّرة عند الإنسان: الذبيحة، والأساطير، والطقوس، والأزمة الذبائحية.. هذه العناصر المفهومية التي نحتها الفيلسوف الفرنسي (1923) يجمعها بُعد واحد، هو مركزية الأنا في علاقتها مع الذات والآخر. بلغة علمية شديدة الصرامة تتكاثر فيها مصطلحات علم النفس والأنثروبولجيا، يبني صاحب «الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية» (صدرت ترجمته العربية عن الدار نفسها) إشكاليته الأساسية عن الرغبة المحاكية وارتباطها مع الجماعة والدين. الإنسان وفق جيرار هو كائن عنيف، يريد الاستحواذ على ما يرغب فيه الآخرون. وهذا ما يسمّيه جيرار «الرغبة المحاكية».
في الكتاب الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية من خلال «المنظمة العربية للترجمة» (توزيع «مركز دراسات الوحدة العربية» ـــــ تعريب سميرة ريشا)، يدشِّن جيرار معركته بفصل عن الذبيحة كأحد روافد الطقوس الشعائرية. وتحت عنوان «الإبدال الذبائحي» الذي ساد الديانات البدائية ما قبل التوحيدية، يستحضر الكاتب بعض ما ورد في العهد القديم، وكيف أنّه حين قام قايين بقتل هابيل، لم يكن يملك مخرجاً ذبائحياً لإرضاء إله العبرانيين، فوجدَ ضالته في «طرف ثالث» هو أخوه. ومن خلال رصد وظيفة الإبدال الذبائحي لدى الحضارة اليونانية القديمة واليهودية، يخلص جيرار إلى أنّ الهدف من الإبدال الذبائحي هو «تهدئة الصراعات الداخلية ومنع نشوب النزاعات المسلحة».
لكن كيف يمكن مقاربة العنف في الأزمنة الحديثة؟ ألا تتوافر ضوابط تكبح تفشيه؟ يجيب جيرار على هذين السؤالين بنظرية مفادها أنّ المرحلة البدائية لجأت إلى المعطى الديني من خلال سفك دم الذبيحة الحيوانية كجواب على قلقها المتنامي إزاء الطبيعة والأطراف الأخرى المعادية لها، فيما المجتمعات الحديثة وضعت نظاماً قضائياً يضبط الفوضى بين قواها. فالديمقراطية على سبيل المثال تمثّل إحدى أهم الآليات للجم الصِدام بين الطبقات.
المجتمعات الحديثة وضعت آليات تلجم الصِدام بين الطبقات
في رؤية استقرائية، يجري المؤلّف مقاربة أنثروبولوجية لاحتفالات البدائيين بالعيد، ويربطها بذكرى إحياء الأزمة الذبائحية قائلاً «قد يبدو مستغرباً أن يتذكر الناس في أجواء الفرح هذه تجربة مروعة إلى هذا الحد. فالعناصر الاحتفالية حصراً ـــــ تلك التي تؤثر فينا أكثر من سواها ـــــ ليست هي علة قيام العيد، وإنما يكمن جوهره في تهيئته للذبيحة التي ترسم ذروته». لكن لماذا هذه الإحالة المفرطة في طقوس البدائيين على التضحية بطرف ثالث؟ ولماذا هذا الربط الوظيفي الحاد بين العادات الطقسية والعنف المتبادل؟ السياق الذي أُدرجت فيه خلاصات الكتاب تسمح للقارئ بملامسة بعض الحلول والنتائج من دون الغوص في أكثر من مدلول، لأنه لو فعل ذلك لأدركَ عمق بدائيته.
يقارع جيرار ميول النفس الإنسانية ورغباتها بعدما عرّى بأسلوب علمي كثيف التعقيد انبعاثات الفكر الديني الأسطوري. لكنه مرة أخرى يلامس هذه الانبعاثات من ناحية التنافس المحموم بين رغبة الفرد وتماهيه مع الآخر على إيقاع ما يسمّيه «الحقد المسعور»: «حقد على الذات التي لا تملك إلّا أن تجري في أثر الآخر، وحقد على الآخر الذي لا يفتأ يُغري المريد بالتشبّه به ويكفّه عن ذلك في آن». لم يخرج الكاتب بهذه الخلاصة الصادمة إلّا بعد مناقشة طويلة لأفكار فرويد عن تموضع الرغبة في اللاوعي، مشيراً إلى أنّ مؤسس التحليل النفسي بالغَ في طرح نظرياته، فالأطر التي تتحكم في الفرد وشهواته تحاكي المنافس/ العدو لا الأم. ومجدداً، مثّل كتاب «الطوطم والمحرَّم» لفرويد نواة أطروحة جيرار. من خلال قراءة متعددة التقنيات والمنهجيات، يقارن جيرار بين «الطوطم والمحرَّم» وكتاب فرويد الآخر «موسى والتوحيد»، ويخلص إلى أنّه إذا كان الكتاب الأول يعالج العادات الطقسية عند الديانات البدائية وما تحويه من حضور محوري للأضحية وأبي العشيرة، فالثاني لا ينأى عن ذلك، «فالشعب العبري الذي فقد نبيّه بعد مقتل موسى، يشبه جماعة الإخوة الذين فقدوا أباهم بعد القتل في الطوطم والمحرم. والقاسم الوحيد المشترك بين الكتابين تحوّل العنف المتبادل إلى عنف تأسيسي». علامَ تدل هذه النتيجة؟ وبصرف النظر عن الفرضيات الواردة في الكتاب، هل يمكننا القول إنّ إله التوراة والعبرانيين إله يجسّد العنف بامتياز؟
لقد أبحر رينيه جيرار بشراهة العالِم بعيداً عن قدسية الآلهة ورموزها لدى البدائيين، مستخدماً أبطالاً وملوكاً وملاحم أسطورية، ليؤكد العلاقة الوظيفية بين المقدّس والعنف: المفردة الأخيرة التي ترد أكثر من 80 مرة في كتاب جيرار، تحمل دلالات لا يمكن التحرر منها لجهة ما تضمنته من تأويلات تُسقط بنى المقدس برمتها.
يبقى أن الجماعات البشرية شهدت وتشهد في مراحلها الحضارية المتعاقبة تجليات العنف الرمزي والمباشر، بكل أشكاله وأنماطه. وذلك يعود في الدرجة الأولى إلى الحفاظ على وجودها مقابل خطر داخلي أو خارجي يوجزه جيرار بمصطلح واحد «كبش الفداء». هذا الأخير يمثِّل المتنفس الأمثل لصدامات الفرد والجماعة وأهوائهما. وبغية إقصاء هذه الصفة عنها، أسبغت عليها طابعاً شرعياً... فهل نمتلك الشجاعة بالإفصاح مجدداً عن براءة الإنسان؟