في أول أعماله الروائية بعد نيله «نوبل» عام 2006، يوثّق الروائي التركي الحياة التركيّة في السبيعينيّات. «متحف البراءة» قصة حب تنتهي بمأساة، وتعبق برائحة إسطنبول الممزّقة، تماماً كالبطل، بين التقليد والحداثة

زياد عبد الله
«أكتب ببطء شديد» يقول أورهان باموق (1952). يبغي الروائي التركي دائماً أن تكون رواياته «كبيرة، وسميكة، وذات شأن كبير». في روايته «متحف البراءة»، الصادرة أخيراً بترجمتها الإنكليزية عن Faber&Faber، يخرج علينا بعمل بدأه عام 2001 وفرغ منه عام... 2008! هذه المرّة، نجده يلاحق الحب وإسطنبول، مدينته الأثيرة التي فارقها للمرة الأولى في «ثلج» (2004)، وبدأ يتعقّب خطوات الشاعر «كا» على ثلوج بلدة نائية. في روايته تلك، تحوم شياطين دوستويفسكي فوق الصراعات السياسية التركية بين إسلاميين وعلمانيين وأكراد، ثم ألمانيا حيث يلقى «كا» حتفه من دون أن تنجو قصائده.
في جديده، وهو أول عمل روائي له بعد حصوله على «جائزة نوبل» عام 2006، لا نجد شيئاً من جماليات وتنويعات «اسمي أحمر»، التي صنعت مجد باموق. في أشهر أعمال الروائي التركي، تناوب الكلب واللون الأحمر على سرد الهوية التركية في ظل الإمبراطورية العثمانية. ضمن حبكة بوليسية، وثّق باموق الفن الإسلامي في تركيا واشتباكه مع التشكيل الأوروبي، إضافةً إلى الثمن الذي دفعه الذي استسلم لغواية التصوير.
يهيمن سرد أفقي واحد على «متحف البراءة»، ترافقه هيكلة محمّلة بمشاعر البطل كمال الميلودرامية. يبدو السرد مأخوذاً بالفقد، من خلال تعقّب البطل لأيّ ذرّة خلّفتها وراءها فوزين، والمتغيرات التي تطرأ عليه. نجده موزعاً بين «سيبيل» خطيبته وابنة طبقته، وفوزين الفقيرة. أمام هذا الشرخ، يتّخذ السرد شكلاً تصاعدياً، يبدأ باختفاء فوزين بعد حفلة خطوبة كمال.
يحضر هنا مفهوم العذريّة في السبعينيات، والتغييرات التي طرأت عليه بالنسبة إلى الطبقة الأرستقراطية، كما هي الحال في علاقة كمال بسيبيل. في السياق ذاته، نشهد فقدان فوزين لعذريتها مع كمال. هذا التوثيق للعذرية سيترافق مع همّ تشريحي بحت ومملّ في أحيان كثيرة لما تحمله الحواس، كأن نقرأ فصلاً معنوناً بـ«الخريطة التشريحية لآلام الحب»، والألم المتموضع في «تجويف بين الرئتين والمعدة».
يحضر مفهوم العذريّة والتغييرات التي طرأت عليه بالنسبة إلى الطبقة الأرستقراطية
عبارة تشريح كلمة مفتاح في الرواية: بين تشريح كمال لذاته العاشقة في استرسال دائم، وتشريح أورهان باموق للأرستقراطيّة التركيّة في سبعينيات القرن الماضي. لهذا الغرض، يجعلنا نتعقّب فوزين مع كمال، الهائم في أحياء إسطنبول بحثاً عنها، فيصبح الكتاب مأهولاً بتفاصيل التغيرات الاجتماعية في تلك الحقبة. من مفهوم العلاقات العاطفيّة والزواج والعذريّة وما أصابها تحت التأثير الغربي، مروراً بالمشروبات الغازية والأزياء والمطاعم والسيارات وأسماء الأبنية والحفلات الصاخبة والسينما والبرامج التلفزيونية وصولاً إلى الشخصيات الكثيرة التي تقارب المئة (مع فهرس بأسمائها في نهاية الرواية) والحائمة حول كمال بوصفه مركز الحبكة.
يمضي كمال في لملمة نفسه الممزقة بين ولهه بفوزين المدانة اجتماعياً لكونها قد شاركت في مسابقة «ملكة جمال تركيا»، وخطيبته سيبيل «الشريكة المثالية» له. لكنّه في النهاية يهجر سيبيل ويلاحق فوزين، مستعداً ليسهر 1593 ليلة في بيت أهلها، رغم زواجها بشاب يحمل طموحات سينمائية كبيرة. ولكي يبقى قرب فوزين، ينتج كمال فيلماً سينمائياً لزوجها. ومن هذه الحادثة، ينطلق باموق في توثيق نقدي للسينما التركية وأجوائها وما يسودها من أخلاقيات ومسالك، في هجائية كبرى لصنّاعها من جهة، وللغرب الحاضر دائماً بوصفه المؤثر الأكبر في شكل تركيا الحديثة.
ككل قصص الحب الكبيرة، ستكون النهاية مأساوية. تقضي فوزين في حادث سيارة ينجو منه كمال، بعدما مارسا الحب في فندق وهما في طريقهما إلى أوروبا. وأمام استحالة استعادة ما كان أو استمراره، نعاين قيس بن الملوّح التركي، لتُكلّل الفصول الأخيرة من الرواية ما سبقها، ويحقق كمال حلمه بـ«متحف البراءة».
في الفصول الأخيرة للرواية، نتعرف إلى آل باموق المدعوين إلى حفلة خطوبة كمال على سيبيل. يحضر أورهان أيضاً، فيصفه كمال بأنّه «يدخّن من دون انقطاع، عمره ثلاث وعشرون سنة، لا شيء مميزاً فيه سوى نزوعه نحو التصرف بعصبية ونفاد صبر، مولّداً ضحكة ساخرة». في الصفحات الخمسين الأخيرة من الرواية، يظهر باموق نفسه، ويتحدث بلسانه، ليخبرنا أنّ كمال كلّفه بكتابة الرواية التي بين أيدينا. نكتشف أنّ «متحف البراءة» متحف قرر كمال إقامته تخليداً لذكرى فوزين وحبهما، يجمع فيه كل ما وقعت عليه فوزين ببصر، أو لامسته، أو تنفسته. يضع فيه أحمر شفاهها على أعقاب السجائر التي دخنتها، قرطها الضائع، أكبر الأشياء وأصغرها، باحثاً في متاحف العالم عن الصيغة المثلى لمتحف غرامه الضائع...


كاتب إسطنبول

لا تفارق إسطنبول كتابات أورهان باموق، هو الذي خصّها بكتاب يجمع ذكرياته بذاكرتها حمل عنوان «إسطنبول: ذكريات مدينة» (2003). تبقى تلك المدينة ديكوراً حاضراً في أعماله، بما يتضمّنه هذا الحضور من حنين إلى زمن هارب، يكتبه في «متحف البراءة». هنا، يواصل كتابة الشرخ بين أزمنة مجتمعات مختلفة، بين الأصالة وتطعيماتها الغربيّة. لا يغادر مدينته إلا نادراً. إذ أقام فترةً في نيويورك، قبل أن يعود إلى أحضان عاصمة الإمبراطورية. أعمال هذا الروائي البعيد عن الأضواء، خلاصة أبحاث تاريخية وأرشيفية مضنية، تلتقي فيها عناصر أوتوبيوغرافيّة. هذه الأجواء نجدها أيضاً وأيضاً في روايته الأخيرة. الكاتب الذي أثار عاصفةً بموقفه حول ضرورة اعتراف تركيا بالمجزرة الأرمنيّة، ولد لعائلة ميسورة عام 1952، هجر كار الهندسة، ونال شهرة عالميّة منذ باكورته «جودت بيك وأولاده» (1982).