محمد خيرإزاء مشروع إنشاء مفوضية الإعلام العربي، لا يملك المرء إلا أن يتساءل: ماذا لو كانت الفضائيات العربية «المشاغبة» قادرة حقاً على تثوير الجماهير؟
الواقع أن المشاهد العربي أهدأ من اللازم، وهو لا يتفاعل حقاً إلا مع البرامج الكلامية بالمزيد من الكلام، وبرامج الرياضة بالمزيد من التعصّب، وبرامج الدجل بالمزيد من ضرب الودع وفتح المندل وتفسير الأحلام، وبرامج الرقص بالمزيد من لعنها نهاراً ومشاهدتها ليلاً. بل إن هناك الأسوأ، إذ لا يزال الإعلام الحكومي هو الأكثر تمكناً في مهارتي التحريض والتعبئة. ومع أن التلفزيون لم يصنع ثورة ولم يخلع نظاماً، إلا أن وزراء الإعلام العرب لا يريدون أن يسمحوا حتى بمرور نسمة هواء لن تقتلع الشجرة.
مفوضية الإعلام العربي بدأت الدعوة إليها من قبل الجامعة العربية تحت ذريعة معالجة خلل الأداء الإعلامي العربي، وهي دعوة تنطق بالحق لزرع الباطل، إذ إن الخلل موجود وحقيقي وفادح، لكنّ المفارقة أن معظمه، أو أكثر ما يستفز الحكومات منه، ليس سببه التنافس المفتوح لرؤوس أموال التلفزيونات الخاصة، بل البرامج والتقارير التي مثّلت نزاعاً فضائياً محوره في الأساس الحكومات نفسها، والتحالفات السياسية المتقاطعة في المنطقة.
إن نظرة إلى فقرات محدودة من بنود مشروع المفوضية توضح ما فيه من بؤس بيروقراطي مستهلك. فمن ضمن الاعتبارات الداعية إلى إنشاء المفوضية، يتحدث البند الثاني عن القضية الفلسطينية. لنقرأ ونتأمل «قضية فلسطين صارت موضع حراك سياسي ودبلوماسي دولي يتطلّب من إعلامنا العربي يقظة دائمة ومقدرة وكفاءة مهنية تكفلان له التعامل الفوري والماهر مع التطورات التي تتعاقب كل يوم، الأمر الذي يستلزم وجود آلية عمل إعلامي عربي مشترك تستطيع بهيكليتها وبمواردها البشرية والمالية القيام بهذه المهمة منقاة من الأشكال النمطية والأساليب الروتينية على أسس عصرية من شأنها تمكين الإعلام العربي من توفير المساندة الضرورية للجهد السياسي والدبلوماسي العربي». كيف يمكن القارئ ألا يبتسم وهو يقرأ الفقرة السابقة، متخيّلاً أن معمعة الصراع بشأن القدس تحتدم بين الدول العربية وإسرائيل، ولا ينقصها إلا أن يكون الإعلام على مستوى «المعركة».
لنلاحظ المنطق المقلوب في الفقرة الخامسة من مشروع التأسيس. هي فقرة تشرح أن خمساً وعشرين قناة عربية تتبع 250 هيئة تلفزيونية، بينها فقط 24 هيئة حكومية، ولهذا فقد كان «مجلس وزراء الإعلام العربي سباقاً في استشراف هذه الصورة عندما اعتمد للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية نظاماً أساسياً يتيح للقنوات الخاصة الانخراط في العمل العربي المشترك والإسهام في تحقيق أهدافه».
لقد تكرّمت إذاً الهيئات العربية الحكومية، التي لا تمثّل سوى أقل من عشرة في المئة من إجمالي الهيئات الإعلامية العربية، فسمحت للتسعين في المئة الباقية بالانضمام إلى اللجنة التي ألّفتها الأولى من أجل تحقيق الهدف المذكور. لنلاحظ كيف يتذرّع مشروع المفوضية بمواكبة العصر. بالانتقال إلى أهداف المفوضية، نقرأ كيف يلتفت الجزء الثاني من الفقرة الخامسة إلى التطور التكنولوجي، ما يحدده في «البث الموجي العريض بأشكاله، التلفزيون المتنقل، الأجهزة الثلاثية (كمبيوتر، خلوي، تلفون)». ترى كم يبدو هذا غريباً من وزراء أنظمة لا يزال معظمها يراقب الإنترنت، ويتحكّم في الصحافة، ويقيّد التلفزيون، ويحدد أحياناً حتى ضيوف البرامج. مع ذلك لا يخجل المشروع من أن يبرز ضمن أهدافه في المادة الأولى «تعزيز احترام المبادئ المهنية، وفي مقدّمها حرية الرأي والتعبير، الصدقية، الشفافية، النزاهة، الحيدة والاستقلالية». بلى ما زلنا نتحدث عن العالم العربي، إنه ذاته الذي ينتظر أن يشهد أول انتخابات شفافة بلا تزوير أو شراء أصوات.
إذاً، هل يمكن أن يكون الفشل مدعاة للتفاؤل؟ نعم يمكن. إذا تذكرنا الفشل التاريخي والمستدام للعمل العربي المشترك، نستطيع أن نتفاءل بأن مفوضية الإعلام العربي لن تكون استثناءً.