الصحافية الفرنسيّة سيسيل ليستيان خاضت في مسألة نشوء اللغة، من خلال حوار ثلاثي مع الأنثروبولوجي باسكال بيك، والألسني لوران ساغار، والطبيبة جيسلان دوهان. النتيجة كتاب مهمّ نقلته ريتا خاطر إلى العربيّة أخيراً
نوال العلي
يستطيع الصمّ والبكم رواية الحكايات. المهمّ أن يجيد الآخرون الاستماع. لغات الإشارة لغات حقيقية. وربما ليس من المبالغة القول إنه وفي البدء كانت الإشارة، لا الكلمة. أم أن لغة كونيّةً واحدة كانت موجودة في ما مضى ثم تنوّعت وتفرعت حتى وصل أحد تنويعاتها إلى شكسبير مثلاً؟ المؤمنون يرون أن الإنسان خُلق على صورة الله، لأنّه يقدر على الكلام وتسمية أشياء العالم. وفي التسمية إعطاء وجود مثبت بالكلام على حقيقة الأشياء. بعضهم يقول أن تكون قادراً على القول، «يعني أن تكون قادراً على الخلق. هذا أمر مذهل» يبين الباحث باسكال بيك. ومن يتتبع «أجمل قصّة عن اللغة» (المنظمة العربي للترجمة ـــــ تعريب ريتا خاطر)، سيردّد العبارة نفسها خلف بيك: حقاً، إنّه لأمر مذهل. تقرأ قصة الكلام كأنّها حدوتة ساندريلا. كل ما هنالك أن الحذاء هو اللغة هذه المرّة. وكما يقال: هناك دائماً حذاء على مقاسك.
وبالعودة إلى لغة الإشارة. نتوقف عند الممثلة الصمّاء إيمانويل لابوريت. إذ تروي حكاية عن علاقتها باللغة أو عن علاقتها بالوقت. وعلى نحو أكثر دقّة عن علاقة اللغة بالوقت. قبل أن تتعلم لغة الإشارة، لم تكن إيمانويل تدرك مفهوم الوقت ومعنى الماقبل والمابعد. إذاً، فلا غنى عن اللغة للتعرّف إلى حقيقة المفاهيم ومعناها لا للتفكير والتعبير فقط. وكم من شكل يمكن أن تتخذ اللغة... يمكنها أن تكون موسيقى أو رياضيات! أينشتاين مثلاً ظلّ يؤكد دائماً أن ليس للكلام دور في تأمّلاته، بل كان يشعر بلغة داخلية يجد صعوبة بالغة في التعبير عنها بالكلمات.
الأنثروبولوجي باسكال بيك، والألسني لوران ساغار، والطبيبة جيسلان دوهان هم أيضاً ثلاثة باحثين في اللغة تلتقيهم الصحافية الفرنسيّة سيسيل ليستيان ليسرد كل منهم فصلاً من رواية «أجمل قصّة عن اللغة». وها هي ريتا خاطر التي ترجمت أيضاً كتاب «المُضمر»، تنزل إلى النهر نفسه مرتين، لكن ما يستهويها الآن ليس علم الدلالات وإنما نشوء اللغة. يأخذ الكتاب شكل حوار يدور بين الصحافية والباحثين في حلقات متفرقة وضعتها ليستيان في ثلاثة أجزاء تدور حول مصادر اللغة، وأسطورة اللغات، والكلام الجديد.
لكن قبل الولادة الجديدة للكلام، هناك مسألة تثير الجدل في أوساط الألسنيّين وقد مثّلت لفترة طويلة أمراً يُحظّر الخوض فيه. هل كانت هناك لغة أُمّ؟ كانت جمعية الألسنيّة الباريسية قد منعت سنة 1866 تداول أيّ نقاش حول نشأة اللغة لتعذر الإجابة عن السؤال. ورغم أن البحث في هذا الشأن صار متاحاً الآن، لم تتمكن علوم الأحافير ـــــ رغم تطورها ـــــ من بتّ الأمر، رغم ترجيح المهد الأفريقي، كما تبيّن الأحافير، منشأً للغة الأم.
وإذا كان العلماء قد أصابهم العجز أمام نشوء اللغة، فقد حاول السلف أيضاً البحث في وجود اللغة الآدمية. يروى مثلاً أنّ الفرعون بساميتيك الأول (664 ـــــ ت 610 ق. م.) أراد أن يثبت أن أقدم لغة بشريّة هي المصريّة، فعهد بطفلين إلى راعٍ ليربّيهما، وأخذ عليه عهداً ألّا يلفظ أمامهما كلمة، بل يتركهما للجوع حتى يعرف بأيّ لغة سينطق الصغيران. لكنهما لم يتلفّظا بأيّ كلمة مصرية طبعاً، وربما يكون مصيرهما مثل مصير أطفال الإمبراطور فريدريك الثاني، الذي طبق التجربة نفسها حتى لقي الأطفال مصرعهم.

هل تعود البشريّة يوماً إلى اللغة الواحدة؟
أمّا أسطورة هنود المايا كيشي، فتقول إنّه بعدما خلقت الآلهة البشر، شعرت بالخوف من قوة المخلوقات التي أوجدتها، فرأت أن تثير الفوضى على الأرض وتفرّق البشر، وكانت حيلتها أن جعلت لكل جماعة لغة مختلفة. وعلى مدى عصور عدة، أجمع الغرب على مسلّمة وجود لغة أمّ. وكان السؤال يدور حول معرفة هذه اللغة التي كان يتكلّمها آدم وأبناؤه حتى وقوع كارثة بابل، حين أنزل الله عقابه على البشر جزاء كبريائهم، فمنعهم من الاتحاد، وفرّق بينهم بمضاعفة لغاتهم.
المفارقة في الأمر أن بعض الألسنيّين يتوقّع أنّ يعود البشر ـــــ في مستقبل بعيد ـــــ إلى الحديث بلغة كونية واحدة. والطريف أنهم يتكهّنون بأنّها واحدة من لغتين: الإنكليزية أو الصينية. ولا يستبعد هؤلاء أن تتكلم البشرية مرة أخرى لغة واحدة، وأن تزول الكثير من اللغات التي تهدّدها على ما يبدو قصة موت معلن، ولا سيما مع زيادة وزن المحكيّة على نطاق كبير. وبحسب الألسني لوران ساغار، لن تنجو من الهلاك سوى اللغات التي تحميها دولة معينة ومهيمنة، مثل ما يحدث في الصين مثلاً من تطبيق صارم لنظام لغة واحدة هي المندرينيّة، على حساب لغات الأقليات الأخرى. وكذلك الحال في فرنسا، التي طبّقت منذ الثورة الفرنسية أنظمة تعوق البريتانية والباسكية والبروفنسية والبيكاردية من البقاء. وفي الحقيقة إن بعض اللغات بدأت فعلاً في التلاشي مثل اللغة الهاواية والغالية والماوريّة.
انقراض اللغات يفتح الباب على مصراعيه للحديث عن علاقة اللغة بالفكر من جهة، واللغة والهوية واللغة والعرق من جهة أخرى. وهل من شأن التكلم بلغة واحدة أن يجعل متكلمي هذه اللغة يفكرون بطريقة خاصة؟ وهل يعجز متكلمو اللغات المؤسسة بطريقة مختلفة عن تصوّر العالم بالطريقة نفسها؟ لوران ساغار يوضح أننا جميعاً نملك الدماغ نفسه، بمعزل عن التجارب الشخصيّة. أمّا اللغات، فتسلك الدروب نفسها.