غسان سعود«لم تتمثّل غايتي من هذا الكتاب بإعداد قاموس كلاسيكي أو متخصّص، ولا بالخروج بجردة عامّة لمفردات خطاب الرشوة وتعابيره، ولا بإعداد «مضبطة اتهامية» بحق ممارسيه ومسهّليه والمتغاضين عن سريانه. فهذا لم يكن هدفي حينما قاربتُ هذا الخطاب المسكوت عنه، والمتنامي باطّراد في سلوكيّاتنا التعاملية وفي بيئاتنا العربية المتعددة». بهذه الجملة، يقدّم إلينا نادر سراج كتابه «خطاب الرشوة ـــــ دراسة لغوية اجتماعية» (رياض الريس للكتب والنشر) الذي يستعرض فيه كنايات الرشوة وتوصيفاتها وأشكالها. في هذا الكتاب السميك، يتنقّل سراج بين دولة عربية وأخرى، جامعاً من الإعلام المكتوب والمسموع وأحاديث المواطنين أكثر من 250 كنايةً وتعبيراً عن الرشوة: «إدفع 500 دولار تنحلّ القضية»، «إذا بتشوفي خاطره»، «تفتلّك قرشين»، «يا عمّي اغمزه بحاجة».... من خطاب المرتشي، وخطاب الراشي، وصولاً إلى تحليل دينامية استخدام بعض الضمائر في البنى اللغوية، ومروراً بالأمثال الشعبيّة، جمع سراج حصيلةً لغويّةً قيّمة ضمن معجم لخطاب الرشوة العربي، شرّح فيه ازدواجيّة المعاني المغايرة لما وضع لها في الأصل.

خطاب المرتشي والراشي: السرّ في الضمائر
في عمله هذا، يسعى سراج إلى التأكيد أنّ قدرات علماء اللسانيات لا تنحصر في القيام بأبحاث تطبيقية، بل تتعلّق أساساً بإبراز تجارب الفرد مع العالم من حوله. لهذا، عاين الوقائع ونسَّق الحصيلة الكلامية المتراكمة، من دون أن يبدي أحكاماً تقويمية. في «خطاب الرشوة» يؤكّد سراج أنّ ما شدّه إلى استقصاء تداعيات هذا النمط بعينه من الفساد الاجتماعي هو الفيض الكلامي المتنامي الذي سمعه كل يوم. اللساني، وهنا يتحدث سراج عن نفسه، يمتلك عيناً ثالثة، ويتميّز بسمع مرهف يمكّنه من التقاط تعابير الناس الناقلة لأوجاعهم اليومية.
يعالج الكتاب من زاوية لغويّة ما يدور في المؤسسات الخدماتية من تعامل يومي له جوانبه المالية التسهيلية. لا يقارب سراج هذه المسألة على أنها مجرد معطيات لغوية مجموعة وموثّقة. هي من وجهة نظره اللسانية، ناقلة أمينة لنبض مستخدميها؛ نظراً إلى ما تحمله من خصوصيات تعبيرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببناهم الثقافية الاجتماعية، وتعكس رؤيتهم لذواتهم وللآخر وللعالم من حولهم. وبرأي سراج، فإنّ اللغة الإنسانية، عموماً، ليست مجرد آلة ناسخة تنقل إلينا الصور والمشاهد بأمانة، بقدر ما هي مرآة عاكسة لبنانا الذهنية وخلفياتنا الثقافية الاجتماعية.