في روايته الثانية «شكر للندم» (أرابيسك ــ دمشق)، يشرّح الشاعر السوري ازدواجيّة الشخصيّة العربيّة في ظل خيبة جيله. شاعر وفدائي يتبادلان أوراق الهزيمة والقلق والضياع والأحلام الفارغة
حسين السكاف
«إني أمقت الطبيعة... أودّ لو أُفسد عليها مخططاتها، لو أعاكس سيرها، لو أُوقف دوران الكواكب، لو أنشُر البلبلة في الأفلاك السابحة في الفضاء، لو أُحطّم ما يفيدها وأَحمي ما يؤذيها، وبكلمة موجزة: أتمنى أن أُهينها في أعمالها». بجملة الماركي دو ساد العارمة بالغضب هذه، يفتتح عادل محمود روايته «شُكر للندم» (دار أرابيسك ـــــ دمشق).
إلّا أنّ القارئ سرعان ما يكتشف أن الراوي لم يكن مؤمناً بمقولة أشهر الكتّاب الملعونين في التاريخ، بل استخدمها للتعبير عن غضبٍ متراكم داخل روحه الستينية المشاكسة. غضب المثقف والمواطن البسيط الذي صار الإحباط وغياب الأمل أهمّ ما يميز مشهده اليومي.
على مشهد اقتحام الشرطة لبيت حسين، مهرّب التحف المسروقة، تنطلق أحداث رواية الشاعر السوري الثانية. نقع على شرطي مجنّد، مُحب للشعر، يلملم أوراقاً وصوراً بعثرها رفاقه. تصل تلك الأوراق إلى يد الراوي وائل، وهو شاعر كان له أثر كبير على حسين. بين أوراق هذا الأخير، وما ينقله الراوي من مشاهد ونزوات وخيبات، يستحيل العمل تركيبة منسجمة لروايتين تتحدثان عن الفكرة نفسها: «قصة الصراع الأزلي بين المثقف والواقع السياسي». هل هو صراع المثقف المهزوم على الدوام، أم المثقف الذي اختار الهزيمة ليتدفأ في كنفها؟
يكتب حسين على إحدى أوراقه التي يعود زمنها إلى نيسان 1968 «وعد بلفور لا يزال يُسمّى وعداً عند العرب، بينما أصبح، منذ زمن طويل، حقيقة اسمُها إسرائيل». هذا الفدائي السوري السابق، الذي قصفت معسكره الطائرات الإسرائيلية، يعترف بهزيمته. «لقد انهزمنا. فشل مشروع هانويات الشرق الأوسط. مات غيفارا. البدلات المبرقعة وتلك الأبواط التي كانت محترمة، أصبحت تُلبس في رحلات صيد الأرانب، في البقاع العربية المحيطة بإسرائيل. عدت إلى سورية، لأعمل دهاناً أمسح بالألوان ـــــ فيما أدهن حيطان المؤسسات والمعسكرات ـــــ كل شعارات مرحلة الفدائيين».
تتضّح تدريجاً أفكار الفدائي السابق الذي لا يختلف كثيراً عن أبناء جيله. لكن، ما الذي يربط بينه وبين وائل؟ هل هو الشِعر بآلامه المزمنة، أم أوهام سمّيت آمال ضائعة؟ نكتشف ذلك حين يكشف الراوي عن أوراقه الخاصّة. «أنا رجلٌ خائب بامتياز، أبحث عن شيء مهم لا أعرف ما هو... أكتب، وأقرأ طوال الوقت، أحاور أصدقاء، ألتقي بنساء جعلنني حائط مبكى لرنين خيباتهن المتعلقة برجال غدروا أو غادروا».
هي إذاً رواية تحكي قصة جيل خائب يختصره الكاتب في شخصيّتَي وائل وحسين، ومن خلالهما ملامح جيل النكسة. يتّكئ الراوي على أوراق حسين لينفث غبار خيباته ويسلّط الضوء على مأساة جيل بكامله، كان حسين ضمن رهطه الأشجع... لهذا كان وقع خساراته أكبر. يحاول عادل محمود، الشاعر الستيني، إقناع القارئ بأنّه يتحدث عن شخصيتين منفصلتين. الشاعر المحبط بعد قصّة حب أولى أجهضت بسبب اختلاف دينه عن دين حبيبته، والفدائي الذي مسخته النكسة ليصبح مهرِّب تحف مسروقة من دون أن يفارقه الفقر والعوز.

قصة الصراع الأزلي بين المثقف والواقع السياسي
استلَّ الروح البورجوازية التي تسيطر على المثقف العربي على الدوام ليجسدها في شخصية وائل، والروح العملية الحالمة الواهمة والكثيرة الخيبات التي تسعى وراء تحسين معيشتها بشخصية حسين. يتضح هذا حين نقرأ أحلام حسين وهو يوزّع المبلغ المفترض للتحفة المسروقة: «جزء من المبلغ سأمنحه لوائل الشاعر الذي أحبّ شعره، والذي لم ينشر منه حرفاً حتى الآن. سأزوّده بما يكفي لترميم حصن مغامراته النسائية، بيته في جرمانا، وسأنشر كتبه التي يريد، وأرسله في رحلة إلى اليونان حيث وطن آلهته، وجزيرة كاتبه الملهم نيكوس، ويونانيّاته المهجورات، في يوميات غرام قديم زائل». نكتشف في النهاية أنّ هذا التعس المنكسر، لم يلتقِ بوائل من قبل، وأنّ الأخير بدوره لم ينشر حرفاً واحداً، ورغم ذلك، صار محبّاً لشعره، بل ويعرف عنه كل نزواته وأفكاره وأحلامه.
كأنّ عادل محمود قد استغل خياله الشعري الخصب ليتحدث عن شخصية واحدة. كأننا به يحكي ازدواجية هذه الشخصية العربية بين واقعها من جهة، وما يحيط بها من أجواء سياسية وشعارات غير قابلة للتطبيق من جهة أخرى.